لماذا أقدمت الشخصيات الغربية على تدوين مذكّراتها بينما أحجم أدباؤنا ومفكّرونا عن معالجة هذا الفن الأدبي الرفيع؟! * يمثّل فن كتابات المذكرات الأدبية واحدًا من أهم الفنون التي مارسها السياسيون والأدباء - على حد سواء - في المجتمع الغربي، ومن أهم المذكّرات التي كشفت عن مواهب شخصيات مشهورة في الغرب وذلك بجمعها بين الفكري والأدبي والاقتصادي والسياسي، مذكّرات الكاتب ديك كروسمان: Dic Crossman محرر المجلة البريطانية المعروفة بتوجهها اليساري New Statesman، وأحد ركائز حكومة ويلسون العمالية 1964-1970م. * ومذكّرات سيرة وحياة المنظر الاقتصادي دينيس هيلي Denes Healey والتي وصفتها مجلة الأيكونومست Economist بأنها كانت الأروع بين مثيلاتها من السير الذاتية في التاريخ البريطاني الحديث لجمعها بين الأدبي والسياسي. ** وكذلك مذكّرات الناشط الاشتراكي المعروف وأحد منظري الحلقة الفكرية اليسارية في العصر الحديث في المملكة المتحدة البريطانية والكاتب المعروف بتعاطفه مع القضايا العربية Tony Benn توني بين، والتي تحمل اسم: Out Of The Wilderness. * وتعتبر مذكرات (مارجريت تاتشر) بجزئيها الأول والذي حمل عنوان (الطريق إلى السلطة) والثاني الذي تحدثت فيه عن حياتها في 10 داوننغ ستريت، وقد أهدت الجزء الأول الذي يقع في حوالي 656 صفحة إلى استاذها الروحي (كيث جوزيف) تعتبر الأكثر تداولاً في الأوساط الفكرية البريطانية. * ومن أهم المذكرات التي اعتبرت علامة هامة في مجال كتابة السيرة الذاتية مذكرات الأديب والروائي الاسكتلندي (والتر سكوت) Sir Walter Scott 1771-1822م. * وكان الشاعر الأمريكي المولد، البريطاني الجنسية والهوى، ت. س. إليوت T.s.Eliot صاحب القصيدة الأكثر ذيوعًا في الشعر العالمي الحديث (الأرض اليباب) The Waste Land والتي كان من أشهر النقاد المعاصرين اتفاء بها Stephen Coote، كان أليوت يتطلع أن تدفن معه رسائله وأوراقه الخاصة ولكن زوجته الثانية Valarie Eliot (فاليري فليجر) والتي كانت أمينة سره كما يذكر الناقد المعروف عبدالواحد لؤلؤة، في مقدمة ترجمته الدقيقة والرائعة لقصيدة الأرض اليباب. * نعم لقد أصرَّت (فاليري) على نشر رسائله والتي سوف نعرضها في دراسة مستقلة. وظهرت رسائل إليوت في جزئين الأول: يغطي الحقبة الممتدة من 1898-1922م في حياة الشاعر الممتلئة بالأحداث والوقائع والنجاحات والاخفاقات، أما الجزء الثاني فيشمل الحقبة الممتدة 1923-1925م. [أنظر الملحق الاسبوعي لصحيفة الديلي تلغراف عدد يوم 17 نوفمبر 2009م]. * نشر بعض الأدباء والكُتّاب العرب مذكراتهم في حياتهم: مثل عبدالرحمن بدوي، ولويس عوض، وإبراهيم جبرا وسواهم، كما نشر الأستاذ محمود أبورية رسائل الأديب المعروف مصطفى صادق الرافعي- بعد وفاته- ولقد أثارت تلك الرسالة نقاشا نقديًّا إبّان صدورها. * واهتم بعض الدراسين بالرسائل المتبادلة بين الأديبة (مي زيادة) وبعض معاصريها من الأدباء مثل جبران خليل جبران الذي لم تقابله في حياتها قط، ورسائل أخرى بينها وبين الأديب الكبير عباس محمود العقاد حيث كانت تؤم صالونه الأدبي المعروف. * وأزاح أخيرًا الناقد رجاء النقاش الستار عن الرسائل التي كانت تتبادلها الأديبة فدوى طوقان مع الناقد أنوار المعداوي، وتذكر الناقدة السعودية لطيفة الشعلان في دراستها عن هذه الرسائل بين طوقان والمعداوي ما نصه (وسؤال العلاقة بين فدوى وأنور لا يقلّ أهمية عن سؤال العلاقة بين مي وجبران الذي أسال حبرًا نقديًّا كثيرًا ولا يزال، لأنه سؤال عن جزء مهم وفريد في السيرة الأدبية والشخصية لذوات مبدعة، يتجاوز العناية الظاهرية بشأن العلاقة الشخصية إلى أفق أكثر إتساعًا يتقاطع فيه النفسي مع الإبداعي مع الثقافي الاجتماعي، في حقبة أدبية وزمنية معينة). [صحيفة الحياة، الأحد 13 حزيران، 2010م / 1رجب 1431ه العدد: 17236، ص27]. * كان الشاعر والأديب الدكتور غازي القصيبي- شافاه الله- من أوائل الشخصيات السعودية التي دوّنت بجرأة وشجاعة سيرة حياتها سواءًا بطريقة مباشرة كما فعل في كتابه (حياتي في الإدارة) أو بطريق غير مباشر في عمله الروائي الإبداعي (شقة الحرية). * ولقد فقدنا أخيرًا شخصيتين وطنيتين وهما: معالي الأستاذ أحمد صلاح جمجوم ومعالي الأستاذ عبدالرحمن منصوري، وبفقدهما دفنت معهما أحداث مرحلة تمتد إلى أكثر من ستّين عامًا يمتزج فيها السياسي بالإداري، والفكري والأدبي بالاقتصادي، ولعل ذلك الحدث المؤلم يكون حافزًا لمن تبقّى من رموزنا لتدوينا سيرهم الذاتية ونشر مذكّراتهم وكسر ذلك الحاجز النفسي الذي يحول بيننا وبين معالجة هذا الفن الأدبي الهام الذي عرفته الأمم منذ قرون طويلة.