صدق الحق عندما قال: “وجعلنا من الماء كل شيء حي” فالماء عصب الحياة، ومورد الرزق، وزينة الدنيا، وكل المعاني السامية . «وعندما تهطل الأمطار في مناطق جافة ليست بها أنهار أو بحيرات، فإن الناس يسعدون أيّما سعادة. فمن صحراء ثار في ولاية راجستان في شمال الهند، إلى المناطق الجافة في أريزونا بالولايات المتحدةالأمريكية وأستراليا، لا تختلف ردة الفعل عند هطول الأمطار، حيث يسعد بها الناس ويستبشرون. لكن لم يكن هذا هو الحال في مدينة جدة مؤخرًا حيث لم يجلب المطر البهجة والسعادة، بل الخراب والدمار. واستشعرتُ بداية المأساة في صباح الأربعاء الثامن من ذي الحجة 1430ه الموافق الخامس والعشرين من نوفمبر 2009م وأنا أتأهب الذهاب إلى منى بعد صلاة الفجر، حين دوت أصوات الرعد، أعقب ذلك انقطاع التيار الكهربائي، وتوالت المآسي بعد ذلك. وفي حوالى العاشرة والنصف صباحًا، بينما الأوتوبيس يسير بنا في طريق المدينة، رأينا كمية من المياه أمام سوق جدة الدولي، وقد بدأت هذه المياه في الارتفاع بسبب هطول الأمطار بشكل متواصل. وعندما تجاوزنا فندق انتركونتننتال رأينا سيارة البلدية وهي تحاول ضخ الماء بعيدًا عن الطريق. وكان هذا المنظر بداية الكارثة، كما أصبح أكثر جدية وخطورة فيما بعد. وعندما اقتربنا من الاستاد الرياضي في جنوبجدة، رأينا عددًا من السيارات وهي عالقة في المياه، بل بعضها جرفته المياه بعيدًا. واستمر أتوبيسنا في المسير، ولكن بعد أن تجاوزنا مشروع مساكن الأمير فواز، بدأنا نشعر بالحجم الحقيقي للمأساة. وفي طريق جدةمكة السريع رأينا عددًا من السيارات وهي مغمورة تمامًا بالمياه. ولم يكن في وسعنا عمل أي شيء غير الدعاء بأن تمر المأساة بسلام، وينجي الله كل الناس من غضبة السماء. وبدأ السائقون يخافون على حياتهم وسياراتهم، وحياة مَن معهم من ركاب. لهذا قام بعضهم باختراق الحاجز بين المسارين والسير على الجزيرة التي تفصل بينهما في مخالفة واضحة لأنظمة المرور. ولم نشاهد أية سيارة للمرور، كما لم نسمع هدير حوامات الدفاع المدني. واتضحت لنا جليًّا خطورة الموقف الذي أصبح معه كثير من الناس مهددين بالموت غرقًا في المياه التي انتظرناها طويلاً، وفرحنا كثيرًا لمقدمها. وبأن حجم المأساة في اليوم التالي وهو يوم الوقوف بعرفة، حيث سألنا الله التخفيف من حجم هذه النازلة. وبعدها وعلى مواقع شبكة الانترنت، واليوتيوب، والتويتر، والفيس بوك بدأ الناس في كل أنحاء العالم يشاهدون بذهول كارثة المياه في جدة. وباستقراء الحقائق، نجد أن كل الذي حدث هو أن كمية من الأمطار لم يرتفع حجمها عن بوصتين هطلت في جدة فأغرقت الطريق السريع!! وعلى سبيل المقارنة فقط، فإن منسوب المطر في مومباي بالهند يبلغ يوميًّا 19 بوصة، ومع هذا تبقى شوارعها جافة، ولا تتوقف حركة السير عليها!! ولا شك أن المطر رحمة من الله، لكننا لم نقبل بهذه البديهية فوقعت المأساة. لماذا كان المطر في جدة سقيا عذاب، وليس سقيا رحمة؟ السبب بسيط جدًا وهو أن مدينة جدة لم تكن مستعدة لتلافي المأساة، ولم تعرف كيف تتعامل معها بعد حدوثها. وكالعادة، فنحن دائمًا نتعامل برد الفعل، ولا نأخذ المبادرات ونستبق الحدث. وبعبارة أخرى، فنحن نظل ننتظر حتى يحدث شيء، وبعد ذلك نقرر ماذا نفعل إزاءه. وعندما نتخذ القرار بالتصرف يكون الوقت قد فات. يوجد في كثير من دول العالم المتقدمة ما يُعرف ب “مركز إدارة الأزمات”، ووظيفة هذا المركز هي الاستعداد لمجابهة كل الكوارث بأنواعها المختلفة، مثل: الحرائق، والفيضانات، والأمطار، والأعاصير، والتفجيرات، وحوادث الطائرات، والاضطرابات المدنية، والمظاهرات وغيرها. ويقوم هذا المركز بدراسة كل البدائل المطروحة عند حدوث الكوارث والأزمات، ودراسة التفاصيل الدقيقة حتى إذا وقعت الكارثة فإن الأفراد المؤهلين يعرفون ماذا يعملون بالضبط للتقليل من حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات. ويقوم موظفو مركز إدارة الأزمات بتدريب الناس وإعدادهم حتى يعلم كل فرد منهم ماذا يعمل عندما تحل النوازل. وتكون ردة فعل هؤلاء الناس المدربين عند الكوارث طبيعية، بل وتلقائية، حيث لا يكون هناك تردد أو حيرة فيما يجب عمله. ولا يعني هذا أن هؤلاء الأفراد المدربين والمؤهلين يمكنهم منع حدوث الكوارث، لكنهم على الأقل يعرفون ما يجب عمله، ويتحركون على هذا الأساس دون تردد أو إبطاء. إنهم، وبعبارة بسيطة، لا يقفون مكتوفي الأيدي حتى تستفحل الأزمة، وتخرج عن نطاق السيطرة. وإذا نظرنا إلى وضعنا في مدينة جدة، وتفحصنا الصحف قبل الأزمة فإننا سنقرأ عن بلايين الريالات التي رصدت لمشاريع الصرف، وأنابيب المياه، والطرق المشيدة حسب “آخر المواصفات العالمية”، وقنوات المياه وغيرها من المشروعات التي توحي إليك بأنك في مدينة آمنة من كوارث الأمطار أو الفيضانات!! وإذا كان تنفيذ هذه المشاريع المزعومة قد تم حسب ما قرأنا وسمعنا عنه في الصحف ووسائل الإعلام، فإن الرحمة التي أغدقها علينا الله سبحانه وتعالى ما كانت ستتحوّل إلى كارثة فوق الوصف، وفوق التصوّر. إننا بالطبع لسنا في الصورة تمامًا بشأن دقة تنفيذ مشروعات تصريف المياه، لكن من الواضح أنها لو كانت قد تمت حسب ما هو مرسوم ومخطط، فإن كارثة الأمطار والفيضانات ما كانت ستقع في الأساس، أو أنها كانت ستكون ضئيلة جدًا.