فكرة التوسع في التعليم العالي وتأسيس جامعات في كل مناطق المملكة، تعدُّ في الأساس تعبيراً عن الابتعاد عن تعميق المناطقية التي تركز كل شيء في المدن الكبرى (الرياضوجدة والدمام) أكبر مدن المملكة، وتخفيف الضغوط على الجامعات الكبرى (جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز وجامعة البترول والمعادن)؛ وبذلك يخف الضغط السكاني على العاصمة الرياض، وجدة بوابة الحرمين الشريفين، والدمام عاصمة البترول العالمية. في اعتقادي أن هذا منطق التخطيط الاستراتيجي السليم، ولكن الذي حصل أن الجامعات الجديدة تستقبل أعدادًا كبيرة من الطلاب والطالبات يدرسون ويتخرجون ويهاجرون إلى المدن الكبرى (الرياض والدمام وجدة)؛ بحثًا عن الوظائف ولقمة العيش، ويصبحون مغتربين داخل الوطن بعيدًا عن مناطقهم ويعودون إليها في العطل الصيفية أو المناسبات الاجتماعية ومع أن الوطن واحد، إلا أن التنمية المستدامة من شروط نجاحها الابتعاد عن المركزية والتركيز على التنمية المتوازنة بين المناطق. خلال شهر واحد أتيح لي زيارة العاصمة الرياض مرتين حرصت على أن يكون سفري في النهار واختيار مقعد بالطائرة بجوار النافذة؛ حتى أتمكن من الرؤية من الجو؛ لذلك التوسع المهول لمدينة ستصبح عما قريب يناهز عدد سكانها العشرة ملايين نسمة وأكثر، وهذا أمر يطرح بعض التساؤلات عما إذا كان من الحكمة التوسع بهذا الشكل لمدينة ليست على ساحل بحر أو بها نهر وتجلب لها المياه من محطات تحلية تبعد عنها ستمائة كيلومتر على الأقل، وفوق هذا نركز أهم الخدمات والمشروعات التنموية بها بدلًا من اختيار نوعي للمشروعات يضفي عليها طابع الأناقة والجمال ويبقيها عاصمة في حدود ما هي عليه حاليًّا من عدد السكان، خاصة أن الحكومة ينتقل مقرها كل عام إلى منطقة مكة من بداية شهر رمضان المبارك إلى نهاية محرم؛ لرعاية موسمي العمرة والحج عن قرب، وهذا تقليد حكيم جرت عليه العادة من بداية عهد المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وسار عليه أبناؤه من بعده، رحم الله من مات منهم وحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين محمد بن سلمان. ومن هذه الإشكاليات تبرز أمامنا مشكلات المناطقية والمركزية ومحدودية التنمية المستدامة والتوازن بين المناطق برؤية وطنية بعيدة المدى؛ لتحقيق رؤية 2030، وتفتح مجالات استثمار الثروات الطبيعية التي يوفرها تنوع المناخ والواقع الجغرافي ونسبة أعداد السكان في كل مناطق المملكة بدلًا من النظر إلى الرياض على أنها نجد بكل أبعادها، ومنطقة مكة على أنها الحجاز بكامله، والدمام المنطقة الشرقية، وباقي الأطراف شبه مهمشة، بها جامعات تستوعب عشرات الألوف من الطلاب والطالبات وليس بها وظائف تستوعب الحد الأدنى من خريجيها.. ومن أهم اعتبارات التخطيط الاستراتيجي توفر المياه ونسبة النمو السكاني والمكونات الطبيعية ومخرجات التعليم، وعلى هذا الأساس فإن على وزارة التخطيط والاقتصاد الوطني إعادة النظر في التخطيط الاستراتيجي والتنموي لمدن المملكة من كل جوانبه، على أسس تنمية مستدامة وشفافية عادلة بين المناطق قبل فوات الأوان.