لم يكد وطننا الغالي يزيح عن كاهله مخرجات عقودٍ من التطرف والإرهاب حتى التفتَ إلى الوجه الآخَر لِعُمْلَةِ خرابِ الأوطان ودمارها ألا وهو الفساد. الجميع كان يرتقب هذه الالتفاتة الحاسمة لتأتي على الفساد الذي تغوَّل في مفاصل كثيرة، وأدى إلى تأخر التنمية، وتعطُّل المشروعات الحيوية، حتى بات مصطلح (تعثر) ثقافة سائدة بين المفسدِين، وشبحًا يتربص بمستقبَل المواطنِين، على الرغم من مليارات الريالات التي تضخها الدولة لكل خطط التنمية ومشروعاتها، ومع هذا كله تتوقف معظم المشروعات مع أول مسمار يُدق فيها، مع أن العلة ظاهرة للجميع متمثلة فيما يُعرف ب (عقود الباطن) التي يقف خلفها هوامير متنفِّذون أفسدوا خطط التنمية، وتعثرت بسببهم المشروعات. الفساد لا يقل خطرًا عن الإرهاب بل قد يفوقه؛ فهو ينخر في جسد الوطن متدثرًا بعباءةٍ ظاهرُها الوطنية وباطنها الخيانة، وعن هذا الفساد الخفي قلتُ ذاتَ نُصحٍ: يا موطنِي.. شَرُّ ما لاقيتَ من مِحَنٍ / كالسُّوسِ يَنخُرُ أجسادًا على دَخَنِ ، ذاكَ الفسادُ الذي ما حَلَّ في وطنٍ / إلا ويُلقيهِ في دوامَةِ الفِتَنِ. وأَشرُفُ أنْ حذّرتُ من خطره وعواقبه قبل سبع سنوات، وتحديدًا قبل شهرَينِ كاملَينِ من إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) التي أمر بها الملك عبدالله -رحمه الله- في مقالي المعنون ب (الإرهاب والفساد.. ضحيتهما «وطن») ، وأحمد لهذه الصحيفة نشرها المقال في وقت كان الحديث فيه عن الفساد أشبه بالمشي على حد موس، حتى إنَّ مَن يتحدث عنه تأتيه عبارات الإنكار والتبكيت على شاكلة (وهل لدينا فساد؟!). ومما قلتُ فيه: «مادام أن للفساد نتائجَ وخيمة تقع على كاهل المواطن بالدرجة الأولى فإن اجتثاثه يجب أن يكون من أولويات الحكومات مثله مثل الإرهاب، فهما وجهان لعملة واحدة عنوانها اختلالُ الأمنِ والخرابُ. وحينما نتفق على أن الفساد خطره كخطر الإرهاب فإن الحرب عليه يجب ألا تقل عن الحرب على الإرهاب». واليوم تشرق أنوار الأمل حينما أصدر الملك سلمان -حفظه الله- أمره الملكي بتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد لمكافحة الفساد وتتبع المفسدِين الآكلِين لميزانيات المشروعات،والمختلسِين لخزينة الدولة، والمقتطعِين للأراضي،والمتلاعبِين بالقرارات . وقد جاء الأمر تصديقًا لتصريحٍ سابق لولي العهد حينما قال: «لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد أيًّا من كان،سواء وزير أو أمير،وأي أحد تتوفر ضده الأدلة الكافية سيحاسب». حقًّا إنه عصر سلمان وابنه،عصر المحاسبة، عصر فتح الملفات المغلقة،عصر سيادة ثقافة (من أين لك هذا؟)، فلنكن جميعًا في سفينة الإصلاح لنبحر إلى شواطئ المستقبَل المأمول.