ماكنت أظن أن تصل ردود فعل القراء على مقال الأسبوع الماضي لذاك القدر الكمي والنوعي الذي عبر عن عظيم قلق الناس نحو علاقة أبنائهم بالإنترنت، وبتقنيات الاتصال الحديثة بشكل عام. فقد بدا لي وكأني أول من آثار هذا الموضوع، مع يقيني بأنني لم آت بما لم يأت به الأولون. ولكنني اجتهدت في واحد من أكثر مقالات (استرعى انتباهي) مباشرة واختصاراً، أن أثير قلقاً ينتابني أحياناً تجاه بيئة الإنترنت التي يدلف إليها أبناؤنا، أو أنها هي التي تقتحم عالمهم الصغير، وهم في غرفهم، قد أقفلوا الأبواب وأوصدوها في وجوه كل من هم حولهم، ليكون الأطفال والشباب طرفا في عملية اتصال تفعل بهم الأفاعيل، بالقدر الذي لا يعرف أحد غيرهم، ما الذي يجري تماماً خلف الأقفال والمزاليج. ومن بين ردود الفعل تلك، شدني أحد الآراء الذي عبر عن أننا (نحتاج فعلاً لحلول تجعل منا شعباً إيجابياً مع مخاوفه). ففي هذا الرأي مداخل عديدة للفهم والتأمل، لعلي أوجز الولوج إليها متجاوزاً ما ألمح إليه الرأي من تعريض بالخوف من الإنترنت، فهي مخاوف، في رأيي مشروعة جداً. والواضح أننا لا نحتاج حلولاً فقط، فما أكثرها بين ثنايا المراجع والمصادر المتخصصة، في علوم شتى تقنية واجتماعية وثقافية. ولكننا، نحتاج إلى (إشاعة ثقافة (الحلول) للتعامل الآمن مع الإنترنت داخل البيت وبين أفراد الأسرة). ويعني ذلك، أننا فعلاً نحتاج إلى تشكيل ونشر ثقافة (حلول)، (منطقية)، (علمية)، (واعية)، لما يواجهنا من مشكلات (مستجدة) وما نواجهه من (مظاهر) غير محمودة لتفاعلاتنا مع الكون والحياة فيه. كانت المشكلة المثارة في مقال الأسبوع الماضي تتلخص في تفشي ظاهرة استخدام الأطفال والشباب للإنترنت، في غرفهم الخاصة، وفي بيئة خاصة جداً تتسم بإغلاق الأبواب وقفلها، تماماً في وجه أيٍّ من أفراد الأسرة، بالقدر الذي بات معه لكل طفل أو شاب عالمه الخاص بكل ما يكتنفه من مخاطر ثقافية واجتماعية، سيما في مرحلة زمنية ظهر استخدام الإنترنت خلالها كواحدة من أعتى أدوات اختراق أجيالنا الناشئة. فما الحل؟ أظن أن ثمة جملة من الحلول. منها ما هو سلطوي سيادي للأب أو للأم أو للأخ الأكبر أو للأخت الكبرى. ومن ذلك، فرض أنماط من الرقابة التقنية على أجهزة الأبناء، ومتابعة كل المواقع التي يدخلونها والرسائل التي يتلقونها أو يبعثون بها. وهناك برامج حاسوبية متقدمة تتيح هذا الأسلوب من الرقابة، تبدأ ب (القائمة الخضراء) للمواقع التي يُسمح للأبناء بدخولها، وتنتهي ببرامج التجسس المباشر وتسجيل كل تفاعلات الأبناء مع الإنترنت، ومن ثم فرض سلسلة من العقوبات الصارمة على الأبناء الذين (يتورطون) فيما لا تقبله أسرهم من التعامل مع الشبكة الإلكترونية. ولهذا الأسلوب السلطوي، مكاسب مباشرة كثيرة، لكن له عوائد ثقافية وخيمة على المدى البعيد، تنعكس سلباً على نمو الأبناء عقلياً وعاطفياً، وتؤثر سلباً، أيضاً، على عملية إشباع الأطفال لحاجاتهم المتعددة. ثم إن هذا الأسلوب، كما يبدو، هو منهج العاجزين عن الحلول الأصعب أداء والأنفع علاجاً. والذي تستقر إليه النفس، عوضاً عن الأسلوب السلطوي، أن تعمد الأسرة إلى تفعيل أسلوب وقائي مناسب، بحيث تقوم بتخصيص مكان عام داخل المنزل يكون بمثابة مركز اتصالات يستخدمه كل أفراد الأسرة، بشكل متقارب ومفتوح. فلهذا الأسلوب عوائد إيجابية كثيرة على المستويات التربوية والثقافية والاجتماعية، غير أن عوائده غير مجدية لدى الأسر التي يستخدم أبناؤها أجهزة محمولة صغيرة، كالهواتف النقالة، موصولة بالإنترنت، أو بالشبكات الرقمية الخاصة. ويبدو، أن أنجع الأساليب للتعامل مع هذه المشكلة التربوية والثقافية والاجتماعية، كما أظن، أن تتبنى الأسرة برامج توعوية ل (تنمية الوازع الذاتي عند الأطفال والشباب) من أبنائها، تجاه كل ما هو ضار في التعامل مع الإنترنت. ويتطلب هذا الخيار، بالتأكيد، حرفية عالية عند الأسرة، ومهارة في كيفية تشكيل ذلك الوازع الذاتي بطريقة علمية ومهنية صحيحة. فللتوعية مضامين وأشكال خاصة، ولها خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى يجب على الأسرة بناؤها، بالاستناد إلى نظريات علمية في عمليات الإقناع والتنشئة. وقليل من الأسر في عالمنا العربي من يمكنها تحقيق ذلك. ولعلي أقول، إن من بين إستراتيجيات الإقناع الممكنة هنا، (الحوار المنظم) مع الأبناء حول الإنترنت، وشرح ما يحتاجون إليه، والإجابة عن أسئلتهم تجاهها، وكذلك توضيح ما تتوافر عليه الشبكة من مخاطر ثقافية واجتماعية. كما أن من الاستراتيجيات الممكنة، إهداء الأبناء مطبوعات ومواد إلكترونية مصممة باحترافية عالية للتوعية بمشكلات الإنترنت والأساليب الأمثل للتعامل معها.. ولا بأس أيضاً من إرسال رسائل توعوية غير مباشرة على عناوينهم الإلكترونية الخاصة. والتأكيد على الأبناء، بأهمية العيش في كنف أسرة، والتواصل الطبيعي بين جميع عناصرها ونبذ الوحدة والانعزالية. إن عملاً توعوياً من هذا الحجم، يستحق أن يرتقي إلى سلم الأولويات في الاهتمامات التربوية للأسرة المعاصرة، كما يستحق أن تنظر إليه الأسرة باعتباره مرحلة حاسمة في تكوين وبناء عناصرها، وتشجيعهم لمواجهة ما يهدد هوياتهم ومخرجاتهم من الآراء والاتجاهات والسلوكيات. لكن مشكلة المشاكل هنا، عندما تكون الثقافة الرقمية لدى الأبناء متفوقة جداً على الآباء والأمهات، وهي ظاهرة ملحوظة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة أيضاً. فهل يمكن أن يبدأ الآباء والأمهات بتنمية مهاراتهم ومعارفهم، هم، في عالم الإنترنت حتى يمكنهم التواصل المعرفي والفني مع الأبناء تجاه مخاطر الإنترنت؟ وحتى يمكنهم القيام بدورهم التربوي الذي حملوا أمانته يوم اتخذوا قرار تكوين الأسرة؟ ألم أقل منذ البداية إن الأمر في غاية الخطورة والتعقيد؟ الأمل، إذاً، معقود على برامج توعوية، ترفع من قدرة الأبناء على حماية أنفسهم من مخاطر الإنترنت، فإن لم تكن الأسرة قادرة على تحقيق ذلك، انتقلت الولاية فيه إلى المجتمع بمؤسساته الرسمية والأهلية ذات العلاقة. لأن الخلاصة الأهم التي يجب تحقيقها هي أن نحمي أطفالنا وشبابنا ممن يريدون بنا سوءاً، أياًّ كان ذاك السوء. ولعلي أقترح على كل من وزارة التربية والتعليم، وعلى الهيئات المكاتب المعنية بالتربية والطفولة في المجتمع وفي مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أن تعمد إلى تصميم برنامج توعوي شامل تكون مخرجاته منهجيات معرفية لتعريف الأطفال والشباب، بلغتهم، أن الإنترنت ليست مجرد تواصل.. وأن وراء الأكمة ما وراءها في غالب الأحيان. هنا، سيسعد الجيل الناشئ عندما يواجه تحدي الاختراق بتحدي اليقظة.. وستسعد الأسر عندنا، عندما تجد عوناً وسنداً لها من المؤسسات المجتمعية الواعية.. حمانا الله وحمى أبناءنا من كل طارق لا يطرق بخير. [email protected]