من نجباء مدرسة النبوّة الذين حملوا لواء الدعوة إلى دين الله (أبو بكر - رضي الله عنه -)، بعد أن حرصوا على التّفقّه في شريعة الإسلام، وحكمتها، بالدعوة والعلم والتعليم.. وكان من أفاضل وأكابر صحابة رسول الله، الذي نهى - صلى الله عليه وسلم - عن القدح فيهم، حيث قال: (لا تسبّوا أصحابي، فإن أحدكم لن يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه). فصحابة رسول الله هم الذين حملوا عنه - صلى الله عليه وسلم - الدعوة، وهم في مقدمة الخيريّة لهذه الأمة؛ لما اتصفوا به من أمانة وصدق وإخلاص في حسن الاقتداء به - عليه الصلاة والسلام -، مع الاهتمام بتبليغ ما عرفوا عنه؛ خوفاً من التأثم بكتمان العلم، الذي جاء فيه الوعيد الشديد، لمَن لم يبلغ ما عنده من علم بعدما سئل عنه: بأنّه: (يُلجم بلجام من نار يوم القيامة). وهذه الخيرية جاءت في القرآن الكريم بصفاتها في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قال عمر - رضي الله عنه -: لو شاء الله لقال: (أَنْتُمْ)، فكنّا كلّنا، ولكن قال: (كُنتُمْ) خاصّة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم قال: يا أيها الناس، مَن سرّه أن يكون من تلكم الآية؛ فليؤدّ ما شرطه الله فيها. وبيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضيحاً لفئات من أمته، بحرصها وعملها على دين الله - جلّ وعلا - دعوةً وتبليغاً وعملاً وتعليماً، وجهاداً ومدافعةً، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) في رواية. وإن المتتبع للفقه في دين الإسلام، ليرى اهتمام الصحابة أولاً: بحسن المأخذ عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، في متابعة مجالسه والتأسي بسنته، والسؤال عما يشكل عليهم، ثم إتباع ذلك بالتطبيق والعمل، والتبليغ والدعوة، والتعليم: جهاداً ومدافعةً بأمانة وصدق، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون الذين أمر رسول الله باتباع سنتهم، والأخذ بها، وقَرَن ذلك باتباع سنته فقال في وصية للأمة، في حديث رواه أحمد بسنده إلى رسول الله، وجاء فيه: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ). واتفق علماء الإسلام على أن الخلافة الراشدة، في الأربعة من بعده، ثم تكون ملكاً عضوضاً. إذا عُلم هذا فإن الفقه في الدين موهبة يعطيها الله مَن يشاء من عباده، سِمتُها اقتران الفهم بالعمل، ومحرّكها التقوى، حيث يقول سبحانه: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ إذْ يجب على الفقيه أن يتلمّس الأمور التي تحثّ عليها شريعة الإسلام ليعلمها، وما تنهى عنه ليجتنبها. والفقه يقترن بالفتوى؛ لأنّ المفتي الورع لا يقول إلا عن علم ووعي بالفقه؛ ولذا قال العلماء: إن للفقيه شروطاً، منها: الورع والفطنة، والذكاء والحفظ، مع الحرص على التطبيق والقدوة الحسنة؛ حتى لا يضلّ الناس بفتواه. وأبو بكر الصديق: عبدالله بن عثمان بن عامر، القرشي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، هو أول صحابة رسول الله إيماناً به - صلى الله عليه وسلم -، ويأتي على رأس القرن الأول، الذي كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي قال فيه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم)، ولما سُئل ابن عمر - رضي الله عنهما -: مَن كان يفتي الناس في زمن رسول الله؟ قال: (أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما)؛ فكان من أفقه الصحابة وأعلمهم بالسنة. وُلِدَ - رضي الله عنه - بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب رسول الله قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمرّ طوال إقامته بمكة معه، ورافقه في الهجرة، وفي الغار وفي المشاهد كلها، إلى أن مات - صلوات الله وسلامه عليه -. وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس في حياة رسول الله وبأمره سنة تسع، واستقرّ خليفة في الأرض بعده، ولقّبه المسلمون خليفة رسول الله. وقد قال ابن كثير في تاريخه توثيقاً لمكانته في الإسلام: إنه أول من أسلم من الرجال، وقد صدّقه في أمر البعثة، وأنه قد ألّف في مناقبه، وفضائله هو وعمر بن الخطاب، ثلاثة مجلدات. وقد أسلم على يديه مجموعة من خيرة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -. ولازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ عنه ودافع عنه بنفسه وماله، وأخذ عنه مجموعة من الصحابة، كما روى عنه من التابعين مجموعة من ثقاتهم، كما ذكر ذلك ابن حجر في (الإصابة)، وابن الأثير في (أُسْد الغابة). ويكفيه شرفاً ومكانةً، لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معاذاً إلى اليمن، أنه استشار أصحابه فقال كلّ برأيه، وقال أبو بكر برأيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ الله يكره فوق سماواته، أن يخطئ أبو بكر) أخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. ولا نزاع بين أهل السنة والجماعة، أنّه - رضي الله عنه - أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره الله في كتابه الكريم، في سورة التوبة، مقترناً بهجرة النبي - عليه الصلاة والسلام -، قال تعالى:{(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} الآية (40). وهو من العشرة المبشرين بالجنة وهم أحياء، فقد قال رسول الله: (مَن سرّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر)؛ ولذا لُقِّب بعتيق. وعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يؤكد مكانته؛ فقد ذكر الإمام أحمد في كتابه فضائل الصحابة آثاراً كثيرة عن عليّ - رضي الله عنه - في فضل أبي بكر، منها ما رواه الترمذي بسنده، أن علياً - رضي الله عنه - يقول: (ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ أبو بكر، ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر؟ عمر بن الخطاب).. ويقول - رضي الله عنه -: (لا يفضِّلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته، جَلْدَ المفْترى). وكان أبو بكر - رضي الله عنه -، موفقاً في أموره؛ لأنه كان مراقباً لله في عمله، متقياً ربه في أمور دينه، والله يقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}؛ لذا كانت له مواقف كثيرة، في أمور الدين، تتفق مع المصدر الشرعي. وقد ذكر الجوينيّ في (الورقات): أن أبا بكر - رضي الله عنه -، حلف ألا يأكل الطعام، في وقت غضبه، ثم أكل لما رأى الأكل خيراً، وأقرّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعله، كما أقرّه على قوله - رضي الله عنه -، بإعطاء سَلَب القتيل لقاتله، حيث جعل العلماء - رحمهم الله - ذلك دليلاً على جوازه من الفاعل، وهو - صلى الله عليه وسلم -، معصوم عن أن يقرّ أحداً على منكر، والسنة قول الرسول أو فعله أو إقراره. كما ظهر موقف من مواقف فقهه في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام -، بإدراكه لدلالة النصوص الشرعية؛ فالصحابة - رضوان الله عليهم -، عندما فاجأهم خبر موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تباينت آراؤهم؛ فقد جرّد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، سيفه وتوعّد من يقول بموت رسول الله. ولما سمع هو وغيره من الصحابة تلاوة أبي بكر لهذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}، قال عمر - رضي الله عنه -: فكأني لم أقرأ هذه الآية من قبل. وأخرج البغوي وابن عساكر وغيرهما، حديثاً متصلاً إلى عائشة - رضي الله عنها - جاء فيه: فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي - تعني أبا بكر - بفنائها وفصّلها، قالوا: أين يُدْفَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علماً، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: (سمعت رسول الله يقول: ما مِن نبيّ يقبض إلا دُفن تَحْتَ مضجعه الذي مات فيه). واختلفوا في ميراثه؛ فما وجدوا عند أحد علماً من ذلك؛ فقال أبو بكر: (سمعت رسول الله يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة) كذا في منتخب الكنز. كما اعترف عمر - رضي الله عنه - له بالفقه في حروب الرّدة، عندما أصرّ على قتال مانعي الزكاة، واعتبرها من حق (لا إله إلا الله)، فقد ذكر ابن كثير في تاريخه: أنّ وفود العرب لما جعلت تقدم المدينة يقرّون بالصلاة، ويمتنعون عن أداء الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها للصدِّيق، وذكر أن منهم من احتج بالآية:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}، قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا لمَن صلاته سكن لنا. وتكلم الصحابة مع الصديق في أنْ يتركهم وما هم عليه، من منع الزكاة، ويتألفهم؛ حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون؛ فامتنع الصديق من ذلك وأباه. وقد روى جماعة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علامَ تقاتل الناس؟! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقاً - وفي رواية أو عقالاً - كانوا يؤدونه لرسول الله، لأقاتلنهم عليه، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، قال عمر: فما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق. ومن سعة فقهه وعلمه بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرصه على جمع القرآن الكريم، من صدور الرجال، ومن كلّ شيء، قد كتب فيه، حتى لا يختلفوا، وأودع ذلك بعد جمعه وتمحيصه، عند عائشة حتى جاء عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ فأخرجه بمشورة كبار الصحابة على الصورة المعروفة اليوم بالمصحف العثماني. وجاءت أحاديث تبين عمق فهم أبي بكر للسنة، وحرصه على تطبيق دلالة النصوص الشرعية، في حفظ سر رسول الله، وفي اهتمامه بالحكم الشرعي، توثقاً ودلالةً، وفي حثه ابنته عائشة، على عدم رفع الصوت على رسول الله، وفي ورعه وتقواه، عن أكل ما فيه شبهة الحرام، حتى ولو كان من أعمال الجاهلية قبل أن يسلم صاحبها. ومناقبه - رضي الله عنه - كثيرة، وقد كتب المتأخرون في سيرته وعبقريته عدة مؤلفات، رضي الله عنه.