سبق الكلام على حفظ القرآن وجمعه وكتابته وأسباب ذلك وعد كتاب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكل ذلك في عهد النبوة، جاء أبو بكر رضي الله عنه واشتعلت حروب الردة وقتل القراء بأعداد كبيرة بعضهم أوصلها السبعمائة وبعضهم قال بل خمسمائة منهم بن كثير رحمه الله قال (وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا، فالتقوا معهم فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد، يقولون: ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم ووَلَّى جيش الكفار فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة، وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة، رضي الله عنهم، فلهذا أشار عمر على الصِّديق بأن يجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته) (1) روى البخاري في صحيح عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن يكتب الوحي قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال أبو بكر هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم } إلى آخرهما. وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. البعض يظن أن مهمة أبي بكر رضي الله عنه توقفت على جمع ما كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من دون ترتيبها في مصحف واحد وبعضهم يرى أنه زيادة على ذلك استنطق الحفاظ وكتب ما نطقوا به على يد زيد بن ثابت رضي الله عنه ولكن من دون ترتيب والحقيقة أن هذا غير دقيق فالذي قام به أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو ما مر مع ترتيب الآيات والسور كل في موضعه الصحيح ليس هذا فحسب بل وكتابة ذلك على الأحرف السبعة في مشروع علمي حققه وقام عليه شيخ القراء زيد بن ثابت بمشورة من عمر وتقاسم للعمل مع القراء الحفظة وتطلب الشهود على ذلك في احتشاد علمي مهيب سخر فيه الصديق جميع الإمكانيات وبذل فيه الصحابة أقصى المجهودات كيف لا وهي الأمانة الثقيلة ووحي السماء وكل ذلك في سنة واحدة أما الذي تم في عهد عثمان رضي الله عنه هو توحيد القراءة كما سيأتي بإذن الله بل إن بعض أهل العلم يرى أن المصحف كلمة أطلقت على ما صنعه أبو بكر رضي الله عنه وكان أول استعمال لها قال علي رضي الله عنه (أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمعه بين اللوحين) (2) قال بن كثير رحمه الله وقد أورد هذا الأثر (هذا إسناد صحيح) والعلم لله أن هذا السند حسن ففيه السدي وهو مختلف فيه ولا بأس به. علق بن كثير رحمه الله على حادثة جمع أبي بكر للقرآن بقوله (وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق، رضي الله عنه، فإنه أقامه الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد بعده، قاتل الأعداء من مانعي الزكاة، والمرتدين، والفرس والروم، ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا، ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضي الله عنه وأرضاه) (3) وفي موضع (فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها، من حفظهما كتاب الله في الصحف؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته، ثم أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان) (4). ولم يكن هذا العمل بدافع نفي التحريف عن القرآن ولا نبذ الخلاف على القراءة فالحفاظ حاضرون والقرآن محفوظ في صدروهم وما كتبوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلى وإنما المقصود أن القراء يستشهدون في المعارك وعليه رأى عمر الملهم المحدث الموفق المسدد أن يشير على أبي بكر الصديق جمع ذلك كله في مصحف واحد يبقى عنده ولا داعي لتوزيعه على الصحابة فهم يحفظونه ويقومون به أناجيلاً في صدورهم ونعم الرأي رأيه رضي الله عنه روى الترمذي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وقال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر أو قال ابن الخطاب فيه شك خارجة إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر قال الألباني: صحيح. وأخر البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال (إنه كان قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب). (قطف الثمر في موافقات عمر سئلت عن موافقات عمر رضي الله عنه فنظمت فيها هذه الأبيات: الحمد لله وصلى الله على نبيه الذي اجتباه يا سائلي والحادثات تكثر عن الذي وافق فيه عمر وما يرى أنزل في الكتاب موافقاً لرأيه الصواب خذ ما سألت عنه في أبيات منظومة تأمن من شتات ففي المقام وأسارى بدر وآيتي تظاهر وستر وذكر جبريل لأهل الغدر وآيتين أنزلا في الخمر وآية الصيام في حل الرفث وقوله نساؤكم حرث يبث وقوله لا يؤمنون حتى يحكموك إذ بقتل أمتي وآية فيها لبدر أو به ولا تصل آية في التوبة وآية في النور هذا بهتان وآية فيها بها الاستئذان وفي ختام آية في المؤمنين تبارك الله بحفظ المتقين وثلة من في صفات السابقين وفي سواء آية المنافقين وعددوا من ذاك نسخ الرسم لآية قد نزلت في الرجم وقال قولاً هو في التوراة قد نبهه كعب عليه فسجد وفي الأذان الذكر للرسول رأيته في خبر موصول وفي القرآن جاء بالتحقيق ما هو من موافق الصديق كقوله هو الذي يصلي عليكم أعظم به من فضل وقوله في آخر المجادلة لا تجد الآية في المخالله نظمت ما رأيته منقولاً والحمد لله على ما أولى) (5) ** ** ** (1) تفسير القرآن العظيم بن كثير ج1 ص31 طبعة دار بن الجوزي. (2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وأبو بكر عَبْد الله بن أَبِي داود السجستاني. ت 316 ه. نشره: د. آرثر جفري. مطبعة الرحمانية. مصر. 1936م وهو من طريق وكيع وأبي أحمد الزبيري وعبد بن سليمان وقبيصة بن عقبة وخلاد بن يحيى كلهم من طريق الثوري عن السدي الكبير عن عبد خير عن علي، وأورده ابن كثير في تفسيره ج1 - ص30 طبعة دار بن الجوزي. وانظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف 45-47 وجمع القرآن ص94. وانظر المصنف لابن أبي شيبة: 6 / 168، والمسند لأحمد:1 / 230 ، 354. (3) تفسير القرآن العظيم بن كثير ج1 ص30 طبعة دار بن الجوزي. (4) تفسير القرآن العظيم بن كثير ج1 ص34 طبعة دار بن الجوزي. (5) الحاوي للفتاوي السيوطي ص364