حينما كان يلتبس أمر ما على أحد المسلمين في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل النبي عن الحكم، فيجيبه بما أوحاه الله تعالى إليه من قرآن كريم، أو بما ألهمه من رأي حكيم، ولكن حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم تدم فانتقل من الحياة الدنيا الى الحياة الأخرى في السنة الحادية عشرة للهجرة 632م وبدأ عصر جديد هو عصر الخلفاء الراشدين. وفي أيامهم تطورت الحياة العامة مما تطلب إصدار أحكام شرعية جديدة لم ترد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، وتطلّب ذلك اجتهاد المجتهدين من أجل استنباط الأحكام التي لا تُعارض الشريعة. استعان الخلفاء الراشدون بآراء كبار الصحابة في عمليات استنباط الأحكام، لأن الصحابة هم أعرف الناس بتفسير القرآن الكريم، والصحابة هم رواة الحديث النبوي، وهم العارفون بالسنن التي طبقت في عصر البعثة، واستمر استفتاء الصحابة في عهود الخلفاء الراشدين، وفي العهد الأموي، واتسمت عهود الخلفاء الراشدين التقيّد بالشورى. آ- أصول الفقه في عهد الصديق. كان أبو بكر الصديق أفضل صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو أول من صدّق نبوّته من الرجال الأحرار، وصاحبه في هجرته من مكةالمكرمة الى المدينةالمنورة يثرب وَوَردَ ذكر ذلك في القرآن الكريم إذ جاء: ]فقد نَصَرَهُ اللهُ إذ أخرجَهُ الذين كفروا ثاني اثنين إذْ هُما في الغار إذْ يقولُ لصاحبه لا تحزنْ إنّ اللهَ معنا[ سورة التوبة، من الآية: 40. ولازم أبو بكر الصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم في دار الهجرة أي: في المدينةالمنورة مُدّة عشر سنوات تقريباً، وكان يُساعدهُ في الحرب والسلم، وينوب عنه في بعض الأمور، إذ حجّ أبو بكر رضي الله عنه بالناس نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في السنة التاسعة للهجرة 630 للميلاد، وعندما مَرِضَ مَرَضَ الوفاة أمر أبا بكر ليؤمَّ المسلمين بالصلاة، وبَشَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إذ قال لأُم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - "أُبشّرُكِ أنّ أبا بكر وعمر يملُكان بعدي أمر أمتي". ولما توفي سنة 11ه/632م بايع المسلمون الصديق بالخلافة، وخاطبوه بخليفة رسول الله، ودامت خلافته حتى وفاته في 21 جُمادى الثانية سنة 13 للهجرة الموافق ل23/7/634م، فكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وهو ابن ثلاث وستين سنة. كرّس أبو بكر الصديق مبدأ الشورى في عهده، وبيّن أنه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وليس خليفة لله، إذْ قال: "لست بخليفة الله على الأرض، ولكني خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-". الأحكام السلطانية للماوردي، ص:14. واختطّ أبو بكر أسس أحكام الخلافة باعتبارها من الأحكام الفرعية المبنية على الأصول الشرعية القائمة على الشورى. ولم يَقصُر الشورى على مسألة الخلافة فحسب بل كان يشاور أصحابه في أحكام الحوادث من أجل استنباط الأحكام الشرعية التي لا تعارض الكتاب والسنة. وأولى قضايا الشورى في عهده هي الخلافة، ومن القضايا المهمة قضية المرتدين الذين رفضوا إخراج زكاة أموالهم، وجحدوا فريضتها، فأجمع أهل الحل والعقد على قتالهم، ووضع حد لتلك الفتنة. جرت الشورى في المسائل التي لا نص فيها من القرآن والسنة، كما جرت الشورى والاجتهاد في تفسير النصوص الغامضة كنصوص العموم، والنصوص المطلقة. واعتُبر ذلك الاجتهاد من باب الرأي لأن الفتاوى القائمة على الاجتهاد قابلة للتغيير عند ظهور الدليل الأقوى. وتَغَيُّر الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمنة أمر وارد، كما أن تغيُّر الأحكام العرفية وارد بتغير الأمكنة أيضاً. ومن الأمور الطارئة في زمن الصديق رضي الله عنه جمعُ القرآن الكريم بعد معركة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة 633م وأُسنِدت مهمة الجمع الى زيد بن ثابت رضي الله عنه، وتم ترتيب سور القرآن الكريم وآياته في ذلك المصحف، بالأخذ بالروايات المتواترة عن كبار الحُفّاظ من الصحابة رضي الله عنهم. ومن أمثلة اجتهاد الصديق مسألة الجَدَّة التي جاءت إليه تسأله ميراثها في تركة وزّعها. قال أبو بكر رضي الله عنه - للجَدَّة - "لا أجدُ لك في كتاب الله شيئاً ولكن سأسألُ الناسَ". فخرج وسأل الصحابة، وقال: "أيُّكم سَمِعَ من رسول الله شيئاً في الجَدَّة؟. فقال المُغيرة بن شعبة: نعم أعطاها رسول الله السُّدس. فقال له: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صَدق المُغيرة. فأعطاها أبو بكر - رضي الله عنه - نصيبها من الميراث وهو السدس". وما زال حق الجدة السدس من الميراث بحسب الشريعة الإسلامية، التزاماً بما أقرّه الصديق رضي الله عنه. ومن أمثلة اجتهاده بخصوص الخلافة: وصيته لعمر رضي الله عنه بالخلافة. يتضح لنا أن الاجتهاد كان موجوداً في عهد الصديق وساد مبدأ الشورى. ولكن علم أصول الفقه لم يدوّن في عهده، شأنه في ذلك شأن غيره من العلوم الدينية والدنيوية التي كانت تُمارَس من دون أن تدون في الكتب، كعلم النحو، وعلم العروض، وعلم البلاغة، وغير ذلك. ب- أصول الفقه في عهد عمر بن الخطاب. تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة بوصية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أداه اجتهاده الى اختيار عمر للخلافة لأنه أكفأ الصحابة حينذاك لمنصب الخلافة، واستمرت خلافته من سنة 13ه 634م حتى سنة 23ه 644م. وكان ميلاد عمر سنة 40 قبل الهجرة 584م، وكان إسلامه قبل الهجرة بخمس سنين وذلك في 619م. وفي كتب الحديث النبوي 537 حديثاً رواها عمر رضي الله عنه. لم يكن اختيار أبي بكر عمر للخلافة اختياراً فردياً، وإنما استشار الصحابة في ذلك، ودليل ذلك قوله: "إني ما قصدتُ، وما ولّيتُ أحداً من قرابتي، وإنما ولّيتُ عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا". تاريخ الأمم: 1/8-197. وأولُ أعمال عمر بعدما تولى الخلافة دَعوتُهُ الى فتح بلاد الفرس والروم. وتحققت دعوته فوصلت حدود الدولة الإسلامية الى نهر جيحون شرقاً، وضمت سورية وأرمينيا في الشمال، ومصر في افريقيا، فتعددت اللغات والأقوام والنِّحلُ والأديان ُ ضمن إطار الدولة الإسلامية، وبناء على ذلك طرأتْ قضايا جديدة استوجبت استنباطَ الأحكام الشرعية الجديدة، فنشط الاجتهادُ في أيامه وبرزت بوادر نشوء مدرسة فقهية أصولية تقوم على منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أصول الفقه الإسلامي. وخلّفت لنا تراثاً أصولياً أصيلاً ساهم في إغنائه عمر بن الخطاب وكبار الصحابة، وشمل استنباط الأحكام، جوانب الحياة الإنسانية كافة آنذاك. وجد أعداء الإسلام أن استمرار حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكل نصراً للإسلام، كما يشكل خطراً على نِحَلِهم الفاسدة، حيث فتح المسلمون بلاد المجوس وغيرها "حتى قيل: انتصب في مدة خلافته اثنا عشر ألف منبر في الإسلام"، الاعلام للزركلي: 5/45. لذلك تآمر أعداء الإسلام على عمر فقتله "أبو لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي - غلام المغيرة بن شعبة - غيلةً بخنجر في خاصرته، وهو في صلاة الصبح، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليال". الاعلام: 5/45-46. وبذلك انتقم أعداء الإسلام من الخليفة الثاني ولكن المدرسة الأصولية العمرية لم تمت بوفاته بل استمرت بالنمو والعطاء الإنساني الشرعي. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض الحوادث على كتاب الله يلتمس حكماً شرعياً لها، فإن وجد الحكم أصدره فوراً، وإن لم يجد الحكم في القرآن الكريم، التمسه في السنة النبوية فإن وجده أصدر الحكم، وإن لم يجده عقد مجلس أهل الحل والعقد من العلماء، وعرض عليهم الحادثة الطارئة، فإن وجد الحكم لدى أحدهم، أو بعضهم أو كلهم، أصدر الحكم استناداً الى ذلك. أما إذا أعياه البحث، ولم يجد حكماً في الكتاب والسنة اجتهد برأيه، واستشار أصحابه من أجل الوصول إلى إصدار حكم شرعي. باستقرائنا النصوص الفقهية والأحكام الشرعية نجد أن منهج الصحابة في استنباط الأحكام هو الذي شكل القاعدة الأساسية لعلم أصول الفقه، إذ أن من الصحابة "من كان يجتهد في حدود الكتاب والسنة، ومنهم من كان يتجاوز تلك الحدود الى القياس غالباً، كعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أو من يتجاوز الى المصلحة في الغالب، مثل عمر رضي الله عنه ت 23ه/644م تاريخ المذاهب الإسلامية، أبو زهرة: 2/22. إلى الكتاب والسنة، نجد ظهور، القياس والإجماع، إذ "كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله. وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس، وكانوا يعبرون عنه بالرأي..." تاريخ التشريع للخضري، ص 87-88 وشمل اجتهاد الصحابة - أيضاً - "الاستحسان والبراءة الأصلية وسد الذرائع، والمصالح المرسلة..." تاريخ التشريع للسايس، ص:80. وكانوا يعتمدون على النظر في دلالات النصوص الشرعية الإسلامية، وإصدار رأي راجح بناء عليها. لم يقتصر مجال أصول الفقه في عهد عمر رضي الله عنه على الشؤون الدينية بل تجاوزها الى الأمور الدنيوية فاستُنبطت أحكام جديدة لم تستنبط قبل العهد العمري، ومثال ذلك أحكام البلاد المفتوحة. فالمسلمون في بادئ أمرهم فرضوا الجزية على أهل البلاد المفتوحة، وكانت الجزية نقداً أو نقداً وعيناً، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم صالح أهل تيماء على الجزية، فأبقاهم في ديارهم "وبقيت أرضهم في أيديهم" فتوح البلدان، ص:40" والخراج، ص:75. كما صالح الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم أهالي تبالة وجرش، "وجعل على كل حالم - بلغ الحلم - ممن فيها من أهل الكتاب ديناراً، مع ضيافة المسلمين" فتوح البلدان، ص: 71. وطبقت الجزية في البلدان المفتوحة في زمن البعثة النبوية واستمر دفعها في عهد الخليفة الأول وحينما فتح خالد بن الوليد مدينة بصرى الشام في أيام خلافة أبي بكر اتفق معهم على أخذ الجزية من أهلها حيث "إن أهل بصرى صالحوا خالد بن الوليد رضي الله عنه على أداء الجزية مقابل الأمان على دمائهم وأموالهم وأولادهم" فتوح البلدان، ص: 124. وكان مقدار تلك الجزية "ديناراً وجُريباً من حنطة على كل حالم - بلغ الحلم" فتوح البلدان، ص:150. وهذا يدل على أن الجزية كانت ديناراً من النقد، وجُريباً من الحنطة. ولا ذكر للخراج في تلك المعاهدات التي عقدها الفاتحون المسلمون مع أهالي البلدان المفتوحة في جنوب سورية في أيام الخليفة الأول تاريخ الطبري ج3/406" والخراج، ص:79. ولكن موضوع الجزية اختلف في عهد الخليفة الثاني الذي اجتهد فأداه اجتهاده الى تنوع الجزية في البلاد المفتوحة حين روعيت الحال المادية لدافعي الجزية من أهالي الريف فقدّر مبلغُ الجزية على قدر الطاقة، فأهالي حمص "صالح بعضهم على قدر طاقته. إن زاد زيد عليه. وإن نقص نقص" تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر ج1/510. ومثل صلح حمص كان صلح باقي المدن السورية. وخيَّر عمر بن الخطاب السكان في البلاد المفتوحة بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية والإقامة أو الرحيل. ووجدت تلك الخيارات من أخذ بها من سكان سورية حين أسلم أكثرهم، وبعضهم دفع الجزية وبقي على دينه، وبعضهم رحل "إلى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج" فتوح البلدان، ص: 174، 177، 978. ولكن الجزيرة فتحت سنة 18ه 639م وسنة 19ه 640م فوضع "عياض بن غنم الفهري على الجماجم - الرؤوس - بالجزيرة على كل جمجمة ديناراً ومدّي قمح وقسطي زيت، وقسطي خل، وجعلهم جميعاً طبقة واحدة"، كتاب الخراج لأبي يوسف، ص41. هكذا نجد أن موضوع الجزيرة خضع للتنظيم في أيام عمر. والذي ساق الى ذلك التنظيم هو اجتهاد الخليفة الراشد الثاني. وبرز خلاف في الرأي بين الخليفة عمر بن الخطاب وبين المجاهدين في ما يخص البلاد المفتوحة 13- 23ه/634- 643م إذ رأى المجاهدون أن "البلاد المفتوحة غنيمة، تقسم بين الفاتحين دون سائر المسلمين" فتوح البلدان، ص: 25. واستندوا في ذلك الرأي على قوله تعالى: ]واعلموا إنما غنمتم من شيء فان لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير[ سورة الأنفال، الآية: 41. وقاس المقاتلون على فتح خيبر سنة 7 ه 628م حين اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة وطبق في ذلك آية الغنائم انظر: سنن البيهقي، ج6/317" والخراج لقدامة، ص:84. ونظراً لعدم وجود عمال مسلمين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أرضهم وأعطاهم نصف الموسم، ووزع النصف الباقي بحسب ما هو وارد في آية الغنائم بداية المتجهد، ج2/ص5" والخراج لقدامة، ص:85. وتكرر الموقف من قبل مقاتلة فتح العراق حين طلب المجاهدون من عمر أن يقسم ما أفاء الله عليهم من العراق والشام إذ قالوا: "أقسم الأرضين بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العسكر" كتاب الخراج، أبو يوسف، ص:23- 24" والخراج لقدامة بن جعفر، ص:87. فرفض عمر واجتهد في قضية الأراضي المفتوحة في الشام والعراق وأداه اجتهاده الى الرد على المجاهدين بقوله: "لا. هذا عين المال ... ولكن احتبسُه فيئاً يجري عليهم وعلى المسلمين" الخراج وصناعة الكتابة، قدامة بن جعفر ص:59-60. والذي دفع عمر الى هذا الرأي هو الحرص على مصلحة المسلمين عموماً وليس الحرص على مصلحة المجاهدين وحدهم من دون غيرهم. وهكذا أُلغيت فكرة تقسيم الأرض المفتوحة، وأُبقيت بأيدي أهلها "مقابل دفع ضريبة الخراج" سنن البيهقي، ج9/ص: 135- 136. وهكذا نجد أن اجتهاد عمر أدى الى تنظيم أمور البلاد المفتوحة، فالجزية على الأفراد البالغين وهي بمثابة بدل الخدمة العسكرية، والخراج على محصول الأرض المفتوحة عنوة، واقتصر معنى الغنيمة على الأموال المنقولة من نقود وذهب وفضة وسلاح ومتاع وأنعام. لم يكن قرار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قراراً فردياً وإنما استشار كبار الصحابة فأقروا ما أشار به وبذلك نال قراره موافقة هي إجماع كبار الصحابة وهو إجماع ملزم لعامة المسلمين. وقد أيده عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة ومعاذ بن جبل كتاب الأموال، ابن سلام، ص:61 وعشرة من أشراف الأنصار "خمسة من الاوس وخمسة من الخزرج" الخراج، أبو يوسف، ص:25- 26. وبرر عمر ذلك الحكم بقوله: "أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر. لا بد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم. فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسّمت الأرضون والعلوج". كتاب الخراج، قدامة بن جعفر، ص:25. وعزز عمر هذا الرأي برأي آخر حيث خاف من انشغال المجاهدين بالزراعة من دون الجهاد حين قال لهم: "إنكم أن اتكلتم على الأرض تركتم الجهاد". كتاب الأموال، ابن زنجويه ج1، ص: 211. وكانت معاملة الفلاحين في ظل الأمبراطوريتين الفارسية والرومانية كعبيد، فلم يعاملهم عمر كذلك بل اعتبرهم أحرار أهل "ذمة تؤخذ منهم الجزية ومن أرضهم الخراج، فهم أحرار لا رق عليهم" فتوح البلدان، ص: 326. وهذه ميزة حسنة ربطت الفلاحين بأرضهم، وجعلتهم ينظرون الى الدولة الإسلامية نظرة إيجابية. هكذا نجد أن الوقائع في عهد الخليفة الراشد الثاني تطلبت أحكاماً شرعية فاستشار الخليفة كبار الصحابة ورجح إجماعهم على إجماع المجاهدين لأن رأيهم يضمن مصالح عموم المسلمين وأهل الذمة ولا يقتصر على تأمين مصلحة المجاهدين من دون غيرهم. وإقرار حكم الخراج في عهد عمر هو تطبيق عملي لعلم أصول الفقه. واستمرت الأحكام الشرعية التي استنبطها الخليفة الثاني حتى جاء العهد الأموي فتم بعض التعديل وتوحيد نظام الضرائب في عموم الأقطار التابعة للخلافة الإسلامية الأموية. رجّح العلماء اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما رجحوا آراءه على آراء الآخرين، حتى قال الشعبي: - رحمه الله - "إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر. وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - إني لأُحب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم. وقال أيضاً: لو أن عمر وُضِع في كفة الميزان، ووُضِع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر. وقال حذيفة: كأن علم الناس مع علم عمر دُسَّ في حجر" إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج1/ص:13. إن أقوال العلماء لم تأت من فراغ وإنما كانت حصيلة معرفتهم صواب الخليفة الراشد الثاني حتى قال الإمام مُجاهد: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به. وقال عبدالله بن المسيب: ما أعلم أحداً بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من عمر بن الخطاب ... وقال محمد بن جرير الطبري: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فُتياهُ ومذاهبَه - في الفقه - غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبَه وقولَهُ لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه. ويرجع ابن مسعود من قوله الى قوله أي إلى قول عمر بن الخطاب" اعلام الموقعين:ج1/16. لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجرد خليفة بل كان مجتهداً ومؤسساً لمدرسة في أصول الفقه اعتمد الرأي الراجح من أجل استنباط الأحكام الشرعية وتخرج من مدرسته أعلام العلوم الإسلامية وهم: عبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس ومن طريق هؤلاء الأربعة انتشرت العلوم الإسلامية بما فيها علم أصول الفقه "فَعِلْمُ الناس عامتُهُ عن أصحاب هؤلاء الأربعة، أ- فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. ب- وأما أهل مكةالمكرمة فعلمهم عن أصحاب عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. ج- وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما. قال ابن جرير الطبري: "وقد قيل: إن ابن عمر وجماعة مِنْ مَنْ عاش بَعْدَهُ بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يُفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مَنْ ما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً" إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: ج1/17. ظهر التخصص الدقيق في المدرسة العمرية إذ نجدُ إشارة صريحة الى ذلك في خُطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خطب الناس في الجابية في بلاد الشام "فقال: مَنْ أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت. ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني". إعلام الموقعين ج1/17. واشتهرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام...". ومن تلاميذ المدرسة العمرية "سعيد بن المُسيب راوية عمر وحامل علمه وهو أفقَهُ أهل المدينة فقهاً وأعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر، وقضايا عمر، وقضايا عثمان رضي الله عنهم وكان ابن المسيب أعلم أهل المدينة بما مضى عليه الناس. وأما أغزرهم حديثاً فعروة بن الزبير. ولا تشاء أن تفجِّر من عبيد الله بن عتبة بن مسعود بحراً إلا فجّرته". إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 1/17 وبعدما مات العبادلة: "عبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان الى الموالي: فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رباح. وفقيه أهل اليمن طاووس. وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير. وفقيه أهل الكوفة ابراهيم النخعي. وفقيه أهل البصرة الحسن البصري. وفقيه أهل الشام مكحول. وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني. إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيّب غير مدافع" إعلام ج1/ص:18 وإلى جانب الفقهاء ظهر عدد وافر من المفتين التابعين في المدينةالمنورةومكةالمكرمةوالبصرة والكوفة والشام ومصر واليمن وبغداد. ومنهاج المدرسة العمرية في أصول الفقه واضح المعالم يبيِّنه في كتابه الى شُريح: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقضِ به ولا تلتفت الى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولم يَسِنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس. وإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك. فإن شئت أن تجتهد رأيكَ فتُقدِّم. وإن شئت أن تتأخر فتتأخر. وما أرى التأخير إلا خيراً لك". إعلام الموقعين، ج1/ ص:51. والروايات متواترة في تبيين منهج المدرسة العمرية هذا. ولذلك يمكننا القول: إن أسس أصول الفقه صارت واضحة المعالم منذ أيام الخليفة الراشد الثاني. * زميل باحث في مركز الدراسات الإسلامية، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن، ساواس.