يقول سارتر: (كل قول ينطوي على موقف).. وهناك مقولة بإن عدم الإيديولوجيا هي إيديولوجيا، أي من يرفض أن تكون له إيديولوجيا فإنه بذلك يتخذ موقفاً إيديولوجياً.. إلا أن هناك معارف علمية وفلسفية تظهر وكأنها خالية من الأدلجة........... فالعلوم الموضوعية وبعض المذاهب والنظريات الفلسفية يعلن أصحابها عن تجردهم من الإيديولوجيا، بينما هناك نظريات فكرية يعترف أصحابها بامتلاكهم إيديولوجيا ويعلنون ذلك كالفلسفات الشيوعية والقومية.. وإذا كانت بعض الفلسفات خالية من إيديولوجيا ظاهرة معلنة، كالفلسفة الوجودية، فهل هي فعلاً تخلو من البعد الإيديولوجي، أو من إيديولوجيا مستترة وراء قناع الموضوعية؟ والإيديولوجيا المقصود بها هنا هي منظومة فكرية تفسر الظواهر المجتمعية والفردية، تُلزم معتنقها بتحديد موقف فكري وعملي في مختلف ميادين الحياة. وسأفرِّق هنا على طريقة (مانهايم) بين الإيديولوجيات الجزئية أو المحددة كتلك التي لفئات معيَّنة صغيرة تعبِّر عن سعيها وراء مصالحها، مثل إيديولوجيا رجال الأعمال، وبين الإيديولوجيات الشمولية التي هي التزام كامل بطريقة الحياة. والمقصود هنا الإيديولوجيات الشمولية فقط. إن البحث عن البعد الإيديولوجي يقودنا إلى البحث عن السياسي في الفلسفة.. فمنذ جمهورية أفلاطون الفلسفية التي لا تخلو من بعد إيديولوجي ظاهر (فلسفة سياسية)، ومنذ تعليم أرسطو للإسكندر المقدوني، مروراً باستخدام المتوكل للكندي، والتحاق الفارابي بسيف الدولة، وابن سينا بشمس الدولة، وابن رشد بالسلطان أبو يعقوب وابنه.. وديكارت بالملكة كرستين، وصولا للرئيس الفرنسي ميتران الملقب بصديق الفلاسفة (سارتر، فوكو، دوبريه)، كان السياسيون يستخدمون الفلاسفة والفلسفة لخدمة السياسة والإيديولوجيا.. فمنذ (متى أنصت الحُكام للفلاسفة؟) على حد تعبير رجيس دوبريه. ولكن إذا كان السياسيون والإيديولوجيون يستخدمون الفلسفة لأغراض إيديولوجية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن هناك إيديولوجيا في كل فلسفة. فإذا اتفقنا على أن الفلسفة تهدف إلى البحث عن الحقيقة، وهي مشبعة بالروح النقدية، وبالشك المنهجي، خاصة الفلسفة الحديثة؛ فذلك يعني أن الفلسفة لا تدعي امتلاك الحقيقة. وعلى النقيض من ذلك نجد أن الإيديولوجيا تستند إلى اليقين بشكل مطلق أو يقترب من المطلق، أي تدَّعي أنها تمتلك الحقيقة، أو على الأقل تمتلك الحقائق الكبرى. ويتضمن الالتزام الإيديولوجي الانصهار في روح الجماعة وكبح استقلالية الفرد الفكرية وتقييد عقله، بينما الالتزام الفلسفي أو الالتزام المنهجي في الفلسفة لا يعني وضع القيود على الفكر، بل هو التزام بالحرية الفكرية واستقلالية العقل المفكر وتهيئة المناخ لذلك.. وهي أيضاً التزام بالتغيير وإعادة توظيف المعاني ودلالاتها وتفكيك النُظم الفكرية.. ومن هنا فإن العلاقة النظرية المُجردة والعلاقة الفكرية العقلانية بين الفلسفة والإيديولوجيا علاقة متنافرة. وهذا التنافر يحدث على الرغم من أن إيديولوجيا ما قد تكون نشأت من الفلسفة، وبالتحديد من الفلسفة السياسية، ولكنها ما لبثت أن خرجت من حالة الشكّ والتغيير للفلسفة إلى حالة اليقين والثبات للإيديولوجيا. أما من الناحية الواقعية التطبيقية فإنه كثيراً ما تكون بين الإيديولوجيا والفلسفة علاقة تجاذب، مما يؤدي إلى تكوُّن بُعد إيديولوجي في الفلسفة، مثلما هناك - دائماً - بُعد فلسفي منصهر في الإيديولوجيا. وغالباً ما تكون هذه العلاقة جدلية، تبدأ ببحث الإيديولوجيا عن فلسفتها، لأنها تحتاج إلى ما يبررها. وإذا كانت الإيديولوجيا تُعطي الشرعية السياسية للسلطة، فإنها في الوقت ذاته تحتاج للشرعية العقلانية والفكرية من الفلسفة, لذلك لن تتخلى الإيديولوجيا عن الفلسفة كدعاية سياسية ترتدي قناع التحليل العقلاني، خاصة الفلسفات التي تنزع إلى إعلاء شأن الدولة والسياسة الجماعية والروح الوطنية على حساب المبادرة الفردية والديموقراطية، وأشهر مثال في ذلك هو فلسفة هيجل المثالية. وهنا، تقوم الفلسفة بخدمة الإيديولوجيا وتعمل على تغذيتها، فتنشأ العلاقة الجدلية بينهما: إيديولوجية س تتبنى وتنشر فلسفة ص ثم تتأثر بها وتؤثر فيها، وفلسفة ص تشكل المنطق العقلاني لإيديولوجية س تتأثر بها وتؤثر فيها. والفلسفة في هذه الحالة لا تنشئ إيديولوجيا، بل هي قامت بتربية الإيديولوجيا بعد نشأتها، أو أن الإيديولوجيا تطفَّلت على هذه الفلسفة واعتنقتها وعملت على تدجينها أو تطويرها.. ومن هذه العلاقة الجدلية، يظهر بُعدٌ إيديولوجي في فلسفة ص. وفي الرد على فلسفة ص تظهر فلسفة ك فينبع بُعدٌ إيديولوجي في فلسفة ك.. وهكذا تتفاعل الفلسفات ببعضها بعضا، فلا نعدم البُعد الإيديولوجي في الفلسفة عموما بشكل أو بآخر، قليلاً أو كثيراً. والبُعد الإيديولوجي الذي أشرت إليه، هو بُعد مباشر، ويضاف إلى ذلك أبعاد غير مباشرة. ففي التنشئة الاجتماعية والتربية والبيئة المحيطة والتعليم المنهجي ينشأ الفرد - الذي سيكون فيلسوفاً - على مضامين فكرية وأنماط وطرق تفكير لا تخلو من أدلجة، فعندما يصوغ الفرد نظرية فلسفية جديدة يبدو من المستحيل أن يتخلص بشكل كامل من تلك الأنماط المُسبقة وطرق التفكير المؤدلجة، مهما حاول التحرر منها؛ ومن هنا، لا بد أن يظهر بُعد إيديولوجي في فلسفته أيَّاً كانت، حتى في حالة تطرفه الشديد ضد الإيديولوجيا. وحتى بعد النشأة، وبلوغ الفرد المتفلسف الاستقلال الفكري - أو ما يظنه كذلك - فإن الظروف المحيطة والمصالح والتغذية الثقافية والموقع الاجتماعي والفيزيقي والطبقة الاجتماعية والوضع الاقتصادي والسياسي، كلها تؤثر في رؤية الفرد الفلسفية، ومن ضمن هذا التأثير تدخل عناصر إيديولوجية لتشكل بعداً إيديولوجياً في فلسفة هذا الفرد. وإذا كان البعد أو التأثر الإيديولوجي موجوداً بالضرورة في الفلسفة، فهل الفلسفة بالضرورة تنتج إيديولوجيا، والعكس صحيح؟ يصعب تصور أن كل فلسفة تنتج إيديولوجيا، على الرغم من أن كل إيديولوجيا تبحث عن فلسفة، فغاية الفلسفة ووسائلها وأدواتها ورؤاها مختلفة حد التناقض أحياناً مع تلك التي للإيديولوجيا، على الرغم من أنهما قد يشتركان في المرجعية. وإذا سألنا من ناحية تقييمية أو معيارية، هل الإيديولوجيا داخل الفلسفة كلها سلبيات؟ الإجابة هي بالنفي، طالما أن الإيديولوجيا موجودة في كل خطاب وكل فكرة، وطالما أنه لا يمكن فصلها عن الفلسفة.. وهذا يعني أنه يمكن أن يكون للفلسفة دور إيجابي داخل الإيديولوجيا من أجل الوصول إلى نظام سياسي إنساني متماسك عبر منهج عقلاني وعبر طرح الأسئلة التحليلية، فالغرض للفلسفة السياسية هو الوصول إلى الدولة الفاضلة التي تحقيق السعادة والأمن والعدالة والحرية والكرامة. المحصلة، أنه يمكن أن تخلو فلسفة ما من التقرير الإيديولوجي، لكنها لا يمكن أن تخلو من بعد إيديولوجي، بل إن أية فكرة وأي نشاط لا يمكن أن يخلو تماماً من البعد الإيديولوجي. وعلى حد تعبير المفكر مارثيلو فيليكس تورا: (إن الإيديولوجيا إشكالية أزلية لا حل لها، وبالتالي ليست هناك مساحة ومتسع خالٍ من الإيديولوجيا وتأثيرها، يتيح لنا مناقشة الإيديولوجيا.. مما يعني استحالة وجود موقف لا إيديولوجي للحديث عن الإيديولوجيا).