حل المشكلات الحدودية العالقة يعني في أهم ما يعنيه: تهيئة مناخ من العلاقات الإيجابية المستقرة والمتطورة في آن معا بين الأطراف المعنية, فبإلاضافة الى اطفاء بؤر التوتر راهنا فإن ذلك يعد انقاذا للأجيال القادمة من الوقوع في حبائل الفتن التي قد يصار الى استغلالها لتعطيل فرص التفاهم، وتبديد كل احتمالات التعاون, فلا شك ان المشكلات الحدودية في منطقتنا ظلت دائما تمثل المواقد الأكثر اضطراما في كامل المسار التاريخي والتنموي لشعوبنا فهي وإن اختفت أحياناً في عتام مقتضيات الدبلوماسيات العابرة إلا انها تبقى المحرك الأصيل في قوى الشد والجذب او المد والجزر في علاقات جميع دول المنطقة,, أي انها الفتيل الدائم الاشتعال (بين الخفوت والتوهج) في كل التاريخ السياسي والجغرافي الحديث لهذه المنطقة. والانجاز الذي تحقق للدبلوماسية السعودية في الأسبوعين الماضيين هو انجاز تاريخي كبير وعظيم بكل المقاييس وهو كان مفاجأة لكثير من المراقبين، ولا سيما فيما يتعلق بالشأن السعودي اليمني، فعلى الرغم من نشاط اللجان القانونية والفنية في السنوات الأخيرة فإن هذا الملف تحديداً ظل من أكثر الملفات صعوبة فتاريخه حافل بالمد والجزر لحوالي 66 عاما مضت، وتوالي هذه السنين، في الوقت الذي زاد ذلك الملف انضاجا، إلا انه خلق في الوقت نفسه احتمالات يأس شديدة لحله وإنهائه، بل ان هناك بعض التحليلات التي كانت تقول بان هناك مستفيدين من بقاء مثل هذا الجرح مفتوحا,, وهو في نظرهم سيظل كذلك,, بل سيبقى من أبرز عناصر الميراث الثقيل الذي ستتوارثه كل أجيال المنطقة القادمة. في الشأن السعودي الكويتي في الجرف القارى المسألة بدت أكثر يسرا، وتوقيت التفاهم حول الحدود البحرية المحاذية للمنطقة المقسومة كانت أكثر من مواتية، وهذا لا يقلل في شيء من أهمية الانجاز، لأن استثمار الظروف المناسبة هو دلالة على صدق النوايا وإخلاصها من جهة، وهو دلالة من جهة أخرى على حنكة الدبلوماسية النشطة التي لا تقبل ببقاء أي مشكلات معلقة قد يأتي عليها أوقات فيصبح حلها او انهاؤها أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً. المواطنون السعوديون خصوصا سيتذكرون دائما هذا الشهر الذي حفل بأهم انجازين دبلوماسيين في تاريخ علاقاتهم مع الجوار. ليس فقط لأن هذين الانجازين قد أخمدا بؤرتين من بؤر احتمالات التوتر، ولكن لأن هذين الانجازين نفسيهما يعدان خاتمة المشكلات الحدودية مع كل دول الجوار,, فبما تحقق في هذا الشهر تكون بلادنا قد اقفلت تماما كل الملفات الحدودية مع جيرانها، على الرغم من بقاء بعض التفاصيل البسيطة التي تجمع المملكة والكويت وإيران فيما يتعلق بالجرف القاري نفسه. وإذا كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز قد اطرى في خطابه السنوي قبل عدة أسابيع أمام مجلس الشورى ما تحقق في العام الذي سبق الخطاب من انهاء للمسائل الحدودية مع دولة قطر، فإن هذا العام الذي نحن فيه هو من الأعوام الأكثر ثراء، ففيه حُلَّت أكثر المسائل الحدودية تعقيدا (اليمن) وفيه انهت المملكة آخر مشكلاتها الحدودية التي كانت عالقة (الكويت). ان إنهاء مثل هذه المشكلات سينعكس إيجابيا على نمو المنطقة وتعاون أهلها، وهو الذي سيسهم اسهاما كبيرا في تهيئة المناخ الأكثر ملاءمة لمبادىء حسن الجوار وتقاليده وشروطه التي هي في أغلبها او في مجملها واضحة الايجابيات,, وهذا هو معنى الغبطة الشديدة التي عمت الفعاليات السياسية والشعبية في الدول المعنية، وهي غبطة مازالت تتفاعل وتعبر عن نفسها في صور مختلفة من صور التعبير. لقد كان لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز دور واضح في العمل على التئام هذه الجروح، ولا شك ان صدقه ونقاء سريرته وفقه الله من العوامل التي ساعدت على تقريب الأفهام وتضييق مناطق الخلاف، فهو بعد ان عقد النية وأبرم العزم على إنهاء هذه المشكلات رمى بكل ثقله على طاولة المباحثات فظفر بكل ما أراد، ليس فقط مما يطمح إليه شعبه في السعودية، ولكن أيضا مما تطمح اليه الشعوب الأخرى من شركائنا في الحدود، ولا بد ان نطري هنا الإرادة الواضحة والعزيمة الصادقة التي تحلّت بها القيادات التي كان له معها جولات من المباحثات التي نحسب أنها كانت مضنية لكنها في نهاية المطاف كانت ثرية الأهداف وغنية الغايات. إننا هنا نهنىء أنفسنا,, ونهنىء جيراننا,, وندعو الله أن يكون ما تحقق عونا لنا ولهم على تحقيق مزيد من الاستقرار لشعوبنا,, ومزيد من الرخاء للأجيال التي ستأتي بعدنا.