ناقشنا بعض أبعاد ظاهرة التفكير الجمعي كظاهرة اجتماعية، وأكدنا على أهمية استخدام المنهج العلمي الذي لا يقفز على الحقائق ولا يهرب عن معالجة الإشكاليات التي تتمحور حول الظواهر الاجتماعية المعقدة؛ بل يعترف بها ويتعاطى معها بكل منهجية وعقلانية، وقد كشفنا النقاب عن بعض الفوائد التي يمكننا تحقيقها إن نحن سعينا إلى زيادة منسوب الذكاء الجمعي. غير أننا لم نشر إلى أهم الشروط اللازمة لتحقيق ذلك، وهو ما نجهد لإيضاحه في هذا المقال. ثمة شروط متعددة يجب توافرها لكي نكون قادرين على زيادة ذكائنا الجمعي ومن أهمها: 1- الوعي بحقيقة التفكير الجمعي وحتمية وجوده وتأثيره. وهذا الوعي يعد بمثابة البوابة الرئيسة للولوج إلى ساحة التأثير الحقيقي على التفكير الجمعي من حيث مفرداته واتجاهاته ودرجات تأثيره ومستويات هيمنته، فالوعي يجعلنا نؤمن بعدم إمكانية اقتلاع التفكير الجمعي أو حتى إضعافه إلى درجة كبيرة، حيث يخالف هذا حقيقة التفكير الجمعي ويعارض حتمية تأثيره. مما يجعلنا نقر بأنه يسعنا فقط العمل على تهذيبه وتقليل هيمنته على العقول وتشجيع الناس على الخروج من سطوته؛ بشرط امتلاك الحجة والبرهان واستخدام المنهجية العلمية، حيث لا نريد أن ُيفتح الباب لكل من يمتلك القدرة على المشي أن يسير في اتجاه يعتقد أنه يخرجه من قبضة التفكير الجمعي! كما يتعين علينا أن نؤمن بأنه بمقدورنا العمل على تغيير بعض مفرداته وتحويل اتجاهاته وتطوير بعض آلياته، وهذا يرجع إلى الوفاء بالشروط التالية. 2- استيعاب بنية التفكير الجمعي ومنطلقاته. قبل أن نكون قادرين على التعامل والتأثير على التفكير الجمعي لابد أن نتعرف على بنية التفكير الجمعي من خلال تحديد إطاره العام الذي ينتظم مجموعة من المفردات الأساسية، بالإضافة إلى تعيين منطلقات التفكير الجمعي التي قد تكون مزيجاً من المنطلقات العقدية والثقافية والاجتماعية والسياسية والمزاجية والتي تصنع بمجموعها وتراكميتها طرائق التفكير الجمعي، ولكي نستطيع أن نتعاطى منهجياً مع مزيج التفكير الجمعي لا يكفي أن نحدد المنطلقات التي تشكّل ذلك المزيج بشكل عام، بل يجب أن نحدد بوجه أو بآخر المنطلق (أو المكّون) الأكثر أهمية ثم الذي يليه وهكذا، أي تحديد تركيبة المزج ونسبته، وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر، كما يجب تصنيف التفكير الجمعي من حيث درجة شموليته وقدراته التأثيرية على الشرائح الفكرية والعمرية المختلفة، وهو أمر يحتاج إلى أبحاث علمية تتصف بقدر كبير من العمق في جمع البيانات وتحليلها وتفسيرها مع ضرورة التنويع في استخدام المناهج العلمية بما في ذلك مناهج الدراسات الطولية (أي داخل المجتمع الواحد أو الشريحة الواحدة) والدراسات العرضية (أي بين المجتمعات أو الشرائح المختلفة). 3- التعرف على مَن يصنع (قوالب التفكير الجمعي). لا يأتي التفكير الجمعي من فراغ ولا يتعلق في فراغ ولا يذوب في فراغ، بل يُصنع في فضاء ممتلئ بالمكونات الثقافية المتنوعة التي تنتظم مجموعة من الفلسفات والأفكار والرؤى والأحداث والقصص والحكايات والرموز والأبطال والطرائف والتجارب والمعاناة والأمزجة، وتلك المكونات الثقافية لا تتسم بذات القدر من (الوجاهة) الفكرية ومن ثم فهي لا تحمل نفس الدرجة من التأثير على صناعة تفكير جمعي، كما أن ذلك يتأثر بمستوى (الكارزمية) التي تحظى بها الجهة المُصدِرة أو المسوِّقة للفكرة، فبعض الأفكار تتمتع بقدرة ذاتية على أن تتسلسل إلى عقول عموم الناس وتتغلغل في وجدانهم، وتلك الجهة قد تكون أفراداً أو مؤسسات أو خليطاً بين هذا وذاك وهو الأغلب، وثمة مجموعة من الأفراد يمتلكون القدرة على تصنيع (قوالب فكرية) ويدخلونها في العقول، ليصبوا فيها كميةً من الأفكار والاتجاهات بحيث تتجمد وتصبح جزءاً من الأجهزة المعرفية التي تحكم طريقة التفكير وتوجهه. وهذا يمكن أن يتحقق لبعض المؤسسات حيث تحظى الاجتهادات المؤسسية بقبول أقوى في بعض المجتمعات نظراً لامتلاكها للكثير من (النفوذ) و(السلطة) و(التأثير)، لاسيما إن كان يقف على رأس تلك المؤسسة (شخصية كارزمية) بلغتها أو تاريخها أو أخلاقيتها أو شرعيتها الدينية أو السياسية. كما يجب التفطن إلى أن درجة تأثير الأفراد والمؤسسات على صناعة التفكير الجمعي ليست ثابتة بل هي متأرجحة من جراء عوامل كثيرة، منها ما يعود لمستوى فعالية أولئك الأفراد والمؤسسات في أداء أدوارهم التعبوية بإزاء التفكير الجمعي ومنها ما يعود إلى الحالة المزاجية للمجتمع ومنها يعود إلى مجال أو موضوع التأثير. 4- امتلاك الجرأة على النقد. يحتل التفكير الجمعي مكانة عالية في وجدان المجتمع ? أي مجتمع-، مما يجعل عملية نقده بالغة الصعوبة وشديدة الحساسية، وهذا يتطلب أن نتمتع بقدر كبير من الجرأة لكي نمارس النقد المنهجي ونبين لعموم الناس بأن التفكير الجمعي وإن كان مفيداً وصحيحاً أحياناً إلا أنه ليس مصدراً معصوماً، بل هو عرضة للخطأ والسطحية والعشوائية، بل قد يكون مصدراً للظلم أو مصادرة الحقوق لبعض الفئات في المجتمع، أو متكأً للاستعلاء والتكبر من جهة المتكبرين ومسوغاً للاستخذاء والاستكانة من جهة المسحوقين، فالتفكير الجمعي يأتي ? أحياناً - ليبرر هذا وذاك تماماً كما يقول المثل الشعبي المصري (والعين ما تعلاش على الحاجب)! 5- الديمومة في عمليات النقد والتصحيح. يشير التفكير الجمعي إلى تراكم هائل من الفلسفات والأفكار والرؤى والاتجاهات والعادات وطرائق التفكير، ولذلك يمكننا تقرير بأنه لا يكفي أن نمارس نقداً جريئاً للتفكير الجمعي، بل لابد من ديمومة النقد له وذلك لبناء تراكمية سليمة تقابل وتنقض التراكمية السقيمة للتفكير الجمعي. 6- محاولة اكتشاف شفرات التفكير الجمعي في المجتمع. يتميز التفكير الجمعي بمزايا عامة لا تختلف من مجتمع إلى آخر، كما يتميز ببعض السمات الخاصة التي تعود إلى ثقافة المجتمع وطبيعته، ولهذا يتوجب علينا أن نتباحث طويلاً حول السمات الجوهرية لتفكيرنا الجمعي، حيث يعيننا ذلك على اكتشاف الشفرات التي نزيد بها ذكاءنا الجمعي، ليس ذلك فحسب بل ويجب - من خلال التفكير الاستبصاري - أن نحدد الأحداث الحرجة التي يجب استغلالها لزيادة الذكاء الجمعي ومن ثم تحديد الفعل الحرج والزمن الحرج والمكان الحرج. وأحسب بأن المجتمع العربي المعاصر لا يدرك ذاته جيداً ولا يعرف على وجه الدقة كثيراً من الأبعاد الحرجة في معادلة الذكاء الاجتماعي، مما يجعلنا ? على سبيل المثال ? نفوّت الكثير من الأحداث والمنعطفات الحرجة دونما استغلال في مجال زيادة ذكائنا الجمعي، وسنتعرض لبعض التطبيقات والشواهد على صحة ما نذهب إليه. 7- استغلال الأحداث الحرجة لزيادة الذكاء الجمعي. يمتاز المجتمع الأكثر ذكاءً بالقدرة الهائلة على تحديد الأحداث الحرجة ? من خلال ممارسة التفكير الاستبصاري ? والتي يمكن الإفادة منها في زيادة الذكاء الجمعي عبر تصرفات رشيدة (فعل حرج) في أوقات وأماكن ملائمة (الزمن الحرج والمكان الحرج)، وتلك الأحداث قد تأتي على شكل أوامر وقرارات وتعليمات وخطط وبرامج واتفاقيات ومشاريع واتجاهات وفرص ومخاطر ونحو ذلك. وهذا يؤكد على أهمية الدور الكبير الذي يلعبه مفكرو المستوى الثالث في اصطياد الأحداث الحرجة وتوجيه الفعل الجمعي نحو استغلاله (على نحو ما بيّناه في مقالات سابقة). وحتى لا يكون تحليلنا نظرياً أو عارياً من الأدلة والبراهين فلا بد من استعراض بعض الشواهد الحياتية التي تعضد ما ذهبنا إليه، وخصوصاً ما يتعلق بإيراد شواهد على بعض الأحداث الحرجة التي مرت بنا فعلاً دون أن نستغلها لزيادة ذكائنا الجمعي. وتجنباً للإطالة يحسن بنا إرجاء عرض تلك الشواهد إلى حلقة قادمة. (*) كاتب وأكاديمي سعودي