لكي نرفع منسوب ذكائنا الجمعي لابد أن نعي ونمارس التفكير الاستبصاري في سياق هندستنا لمجتمعاتنا العربية، لنكون قادرين على تحديد مكونات المعادلة الحرجة: الحدث الحرج والفعل الحرج والزمن الحرج والمكان الحرج بطريقة توصلنا إلى صناعة (سلّم أوليات ذكي) بما في ذلك ابتكار مؤشرات تنموية أصيلة تقيس مقدار نجاحنا في برامج الهندسة الاجتماعية ومستويات التحضر التي نسعى إلى الوصول إليها، كما أن زيادة الذكاء الجمعي يحتاج إلى أن نبتكر منظومة مصطلحية جديدة تضيف لجهازنا المعرفي أدوات تفكير جديدة، وقد أشرنا - في مقال سابق- إلى أن مفكري المستوى الثالث هم من يستطيع أن يبتكر تلك المصطلحات نظراً لاتصافهم بجملة من السمات؛ والتي من بينها تعاملهم الفريد مع التعقيد والغموض، وهو ما سنعرض له بشيء من التفصيل في هذا المقال. بساطة أم تعقيد! بين بساطة وتعقيد... نمضي في حياتنا ونحن نختلف في رؤية قضاياها ومشاكلها وتحديد منعطفاتها المختلفة، حيث يميل بعضنا إلى رؤية أغصان التعقيد والغموض التي تلف قضايانا ومشاكلنا؛ في حين لا يبصر البعض غير البساطة والوضوح. والحقيقة إن القضايا والمشاكل منها المركّب (المعقد) ومنها البسيط، وظاهرة التعقيد في القضايا تشير إلى تداخل عوامل كثيرة جداً في القضية من حيث أسبابها واتجاهها وارتباطها بقضايا أُخر، مع صعوبة قياس أثر بعض العوامل، ليس ذلك فحسب بل وصعوبة أو استحالة عزل أثر بعض العوامل عن بعض، كما أن ديناميكية القضية وتقلبها في حواجز الزمان والمكان يضيف للقضية طبقات من التعقيد ولفائف من الغموض! هذا من جهة الذات الدارسة (الباحث).. أما من جهة الذات المدروسة (الموضوع) فيمكن القول بأن درجة تعقد القضايا لا تنبثق من الشيء ذاته فقط، بل قد تتعلق أحياناً بمستوى التعقيد الذي نلصقه نحن بقضية ما، فمثلاً عندما نكون أمام قضية معينة ونختار أن نصف أو نعالج تلك القضية بطريقة منهجية وتفصيلية آخذين في الاعتبار سيرورة القضية التاريخية وجغرافيتها وأثر الثقافة في بنيتها واتجاهها؛ إن اختيارنا لذلك النهج يعني أننا نميل إلى أن نتعاطى مع الوجه المعقد للقضية بخلاف لو قررنا وصف القضية بأبسط الأوصاف والاكتفاء بدراسة بعض العوامل مع تجميد تاريخية القضية أو تهميش جغرافيتها أو تعطيل الجانب الثقافي فيها، فإن ذلك يعني أننا قررنا التعاطي مع الوجه البسيط للقضية، وعلى هذا يمكننا تقرير أن تصرفنا تجاه تحديد درجة تعقد القضية (المستوى الافتراضي للتعقيد) لا يؤثر على حقيقة تعقد القضية (المستوى الحقيقي للتعقيد) زيادة ونقصاناً؛ إذ أنها بمنأى عن اتجاهاتنا وتحركاتنا وأفعالنا تجاهها!. ثلاثة أنماط للتعامل مع التعقيد بخصوص التعامل مع التعقيد الذي يلف الظواهر الاجتماعية والإنسانية، يختلف الناس في ذلك اختلافاً جلياً، من جراء اختلافهم في أنماط تفكيرهم وشخصياتهم وتنوع تركيبتهم الفكرية، وأحسب أن النقاش حول تلك المسألة شبه معدوم في ساحتنا الفكرية، الأمر الذي يؤكد على أهمية تناولها بشكل تحليلي مع مناقشة الفروقات الجوهرية بين مفكري المستويات المختلفة في هذا الجانب، وذلك كما يلي: سطحية التبسيط: من البساطة إلى البساطة! يتضايق مفكرو المستوى الأول عندما يواجهون نوعاً من التعقيد أو الغموض في القضايا أو المشاكل التي يعالجونها، أي أنهم لا يطيقون - نفسياً وفكرياً - التعامل مع التعقيد والغموض، وُيلجئهم ذلك النمط من التعامل إلى سلوك انسحابي؛ يتجسد في حالتين اثنتين: إما بتبسيط القضايا والمشاكل المعقدة - وهو الأكثر والأخطر - أو تجاهلها وعدم التطرق لها، وفي حالة التعاطي مع تلك القضايا والمشاكل، يكتفي أولئك المفكرون (باصطياد) بعض البيانات والمعلومات المحدودة، والتي ُتبرز لهم جزءاً من الصورة، فيتوهمون أنهم قد تمكنوا من الصورة واستوعبوها كلها، وهذا يجعلهم يتورطون في إصدار حكم - وربّما بشكل جازم وحازم - على (الكل) بناءً على (الجزء)! كما أن بعضهم يوجِّه قدراً من التهكم والسخرية لكل من يشير إلى تعقد أو غموض هذه القضية أو تلك... أي أنهم (ُمبسّطة محقّرة)! وفي هذا تسطيح جلي للقضية أو المشكلة التي يتصدون لها، حيث إن نهجهم التبسيطي الذي يسلكونه - إن بوعي منهم أو بغيره - لا يمكنهم من لمس جوهر القضية ولا الوقوف على بواعثها الكبيرة، فهم كمن حام حول (طريدة)، فأعيته وخلّفته وراء ظهرها، فلما شقّ عليه الوصول إليها رماها بسهم طائش علّه يصيب منها شيئاً... ليرجع إلى قومه بشيء ولو دم أو ريش!... ونستطيع أن نجمل القول في أولئك المفكرين بأنهم لا يستطيعون التعايش مع التعقيد أو الغموض، مما يفقدهم أي قدرة على تفتيت التعقيد، بل إن التعقيد هو الذي يفتّت جلدهم على البحث ويذيب عمقهم... ليراوحوا مجيئاً وذهاباً من البساطة وإليها!. عمق التعقيد: من البساطة إلى التعقيد! يمتاز مفكرو المستوى الثاني بأنهم يتوفرون على قابلية نفسية وفكرية للتعاطي وإلى درجة كبيرة مع التعقيد والغموض، وهذه الصفة تشجعهم على بذل جهود فكرية ضخمة من أجل إذابة التعقيد وإزالة الغموض، ويجمعون من أجل ذلك أكبر قدر ممكن من البيانات والمعلومات وبدرجة عالية من الانتظام؛ ليخضعوها للتحليل المنهجي التفصيلي؛ على نحو ُيغرقهم - غالباً - في كمّ هائل من الفرضيات والاحتمالات والنتائج؛ يفقدون بعدها القدرة على الانفكاك من (قبضة التعقيد)؛ مما يصبغ طروحاتهم ونتائجهم بقدر كبير من التعقيد والغموض، الأمر الذي يقلّل من درجة العمق الذي َيرجع بها أولئك المفكرون من رحلة البحث والتأمل، فمثلاً نجد أن بعض مفكري المستوى الثاني - وخاصة الأكاديميين - يستقصون ويجتهدون في بحث مسألة فيجمعون البيانات ويحللونها ويصلون إلى نتائج ويكتبون أبحاثاً، غير أنهم لا يستطيعون - غالباً- (لملمة) أشتات الحقائق أو (كبسلة) النتائج التي توصلوا إليها بشكل مكثّف من خلال ضغطها في مصطلحات أو نماذج أو نظريات، مما يضطرك كقارئ أن تجهد نفسك في التنقيب في ثلاثين صفحة أو تزيد؛ جمعاً لأشلاء الحقائق المتناثرة في أبحاثهم.. أي أنهم يتخلصون من قيود البساطة لكنهم لا ينعتقون من خيوط التعقيد! وحالهم في هذا كحال من َرمق (طريدةً نفيسةً) فانبعثت نفسه لاصطيادها؛ فراح يطاردها ويمنّي نفسه بها، حتى نال كل منهما من الآخر، فانطرحا على الأرض بعد أن قذف بسهمه صوبها؛ فلا يدري أصابها أم لا.. غير أن الذي يدريه حقاً أنه تمدّد على الأرض، لا يطيق حراكاً ولا حوراً!. عمق البساطة: تفتيت التعقيد! يتسم مفكرو المستوى الثالث بمهارة عالية في التعامل مع التعقيد والغموض، لا بل ينجذبون إلى الانغماس في التعقيد والاقتيات على الغموض وهم يعالجون القضايا والمشاكل المعقدة؛ فيجدون لذة كبيرة في هضم التعقيد ثم إعادة تفتيته إلى مكوناته الأساسية، ويعود ذلك إلى قدرتهم الفائقة على (إزاحة) البيانات والتفاصيل غير الهامة (غير الحرجة)؛ ليبقوا على البيانات والتفاصيل الحرجة فقط،....تتمة المنشور ص 35(أفكار في الهندسة الاجتماعية) وهذا يمنحهم قدرة على المضي قدماً في أغوار التعقيد ليصلوا إلى أعلى درجة ممكنة من العمق، وبعد أن يظفروا بالجوهر لا َيبقون داخل أحشاء التعقيد بل يخرجون إلى السطح وهم يحملون (العمق البسيط)، ثم يحيلونه أو (يكبسلونه) بتفكيرهم الخلاّق وقدراتهم الابتكارية إلى: مصطلحات عميقة تنضاف إلى أدوات التفكير المتاحة؛ أو نموذج أو نظرية تتسم بالعمق النظري والبساطة في بنيانها وإطارها المفاهيمي وربما الإجرائي أيضاً... وتحقق أكبر قدر ممكن من البساطة العميقة لمفكري المستوى الثالث يتناسب طردياً مع قدرتهم وبراعتهم على اصطيادهم الحقائق... ذلك أن الحقائق هي أبسط شيء في الوجود، وإنما التعقيد ينبع من تفسيراتنا واجتهاداتنا التي نحاول من خلالها أن نمسك بتلابيب الحقائق، فمثلاً مرض السرطان كتبت حول أسبابه آلاف الأبحاث والدراسات والكتب والحقيقة تكمن ربما في كلمة واحدة أو بضع كلمات توقفنا على الأسباب الحقيقية!. وقدرة مفكري المستوى الثالث على الظفر بالعمق البسيط تضفي على طروحاتهم قدراً كبيراً من الكارزمية والتي ُتغري الكثيرين لتبني مصطلحاتهم ونماذجهم ونظرياتهم! وحالهم كحال من تقع عينه على (طريدته التي يهواها)، فتجيش نفسه ويجيّشها، فيمتطي صهوة جواده ويرقبها عن كثب حين تسير وحين تستريح وحين تغفو، ليعرف أين ومتى يمطرها بسهامه من كنانته الممتلئة؛ فيرجع بالصيد وهو موفور النفس مستجمع القوى، قادر على تهيئتها وطهيها وتقديمها شهية طيبة.. أي أن مفكري المستوى الثالث يتجاوزون تخوم البساطة إلى حدود التعقيد ليعودوا مرة أخرى إلى البساطة، ولكنها بساطة عمق لا بساطة سطحية، وهي لعمري أعمق أنواع العمق! وبساطة العمق هذه تقتضيها الحياة المعاصرة التي (تكدّرت) بالتعقيد - من جراء عوامل كثيرة لا يسعنا بسطها الآن -، وهذا التكدير يفسّر سر مطالبتنا للدخول في رحم التعقيد ووجوب تحمّل معاناة تفتيته؛ بحثاً عن جواهر القضايا وبواعث المشاكل الكبرى؛ لنرجع من ثم ونحن نحملُ البساطةَ العميقة.. هذا قدرُنا الذي أرى أن نواجهه بجسارة نفسية وأن نحشد له طاقتنا الفكرية من أجل تفتيت التعقيد الذي يحيط بنا من كل جانب، وهذه المسألة (أي ظاهرة تكدير البساطة) لم أقف البتة على من ينبّه على خطورتها ويكشف ماهيتها وأسبابها، فضلاً عن تلمس سبل الخروج من إشكالياتها وآثارها على فعاليتنا الفكرية، وهذه الإشكالية ستستمر حتى نستعيد القدرة الكاملة على إعادة تركيب حياتنا بشكلها الصحيح في ميادين الروح والفكر والجسد؛ نعيد بناءها بعيداً عن كل ما يعكّر صفوها ويشوّه بهاءها ويزيل دفئها ويغتال تلقائيتها!! وهذه القضية تحتاج إلى بسط أكثر، غير أنه ليس هذا مقامه. وأخيراً، أحسب بأننا في المجتمع العربي ُمطالبون بالعمل الجاد للتعريف بمفكري المستوى الثالث وإسهاماتهم والاهتمام بأطروحاتهم وتحليلاتهم وإعطائها ما تستحق من الدراسة والتأمل والنقد والتطبيق، على أن يعاد تصميم سلّم أولويات الهندسة الاجتماعية في ضوء تحليلاتهم المتعمقة ونقدهم المنهجي ومرئياتهم المستبصرة، ليس هذا فحسب، بل يتعين علينا المسارعة في تطوير طرائق التفكير والتحليل لكافة المفكرين في المحيط الثقافي العربي، لتوسيع قاعدة أولئك المفكرين وتعميم الإفادة من مناهجهم وقدراتهم ومهاراتهم وسماتهم. * كاتب وأكاديمي سعودي