بعد حديثنا عن ظاهرة الكارهين ذواتهم وبيان شيء من الأثر الخطير لطروحاتهم على إنسانية الإنسان العربي المعاصر وإنتاجيته وقدراته الإبداعية وسحق أو تشويه هويته واهتزاز خصوصيته الثقافية، نركّز حديثنا في هذا المقال في السمات الأساسية للنمط السائد في فكر المثقفين الكارهين ذواتهم، مع التنبيه إلى أن اتصافهم بتلك الصفات أمر نسبي؛ بمعنى أنه لا يلزم أن يتصف المثقف الكاره ذاته بتلك السمات كلها (خاصة السمات الشخصية والنفسية)؛ حيث يختلف ذلك بحسب درجة كره الذات لديهم، وباختلاف السمات الشخصية، وتنوع أنماط التفكير، ومجالات اهتماماتهم، وتخصصاتهم العلمية، وطبيعة البيئة الثقافية المحيطة بهم، ويمكننا اختصار السمات التي توصلت إليها - في محاولاتي المتواضعة - لرصد ظاهرة وإنتاج الكارهين ذواتهم في الآتي: 1- يغلب على الكارهين ذواتهم (ونخص العميق منهم) الانشغال المستغرق في تحليل فكر التخلف ومحاولة تفكيك مفرداته وإذابة تراكميته؛ أكثر من انشغالهم بأسئلة النهضة وتحدياتها، أي أن نمط تفكيرهم لا يتوجه إلى إيجاد وشائج الربط العضوية ونماذج التكامل بين عمليات نقض التخلف وهدم الانحطاط في ميادين الروح والجسد والعقل، وعمليات تشييد النهضة وبناء التقدم في تلك الميادين. ولذلك نجدهم يحسنون طرح كثير من أسئلة الانفلات من قبضة التخلف دون أن يسعفونا بأسئلة توصلنا إلى جزر النهضة؟ لنبقى معلّقين معزولين قلقين مترقبين حائرين... لا نلوي على شيء سوى كرهنا لذواتنا لسوئها وضعفها وعجزها! وهنا تبرز خطورة الفصل بين مباحث التخلف والانحطاط من جهة ومباحث النهضة والتقدم من جهة ثانية، غير أنهم قد لا يفطنون إلى هذا الأمر أصلاً، وربما يفطنون له لكنهم لا يعترفون به نظرياً، أو يعترفون لكنهم ينفون عن أنفسهم تهميش ذلك الأمر عملياً! 2- ضعف المنهجية التي يتكئون عليها في تبريراتهم في اقتراف النقد المميت، فهم يتعسفون في رد بعض الأدلة والبراهين التي تدل على قدر من تألق الأنا وتميزها ورونقها وإبداعها، يردون ذلك بأساليب إنشائية فارغة، فتجد الواحد منهم ينسف تاريخاً حضارياً حافلاً بالإنجازات والإبداعات يمتد لمئات السنوات بجملة أو جملتين وبأسلوب جزمي عارٍ من أي برهنة!. وكما أن القاعدة تعلّمنا بأن الكذبات تغويك إلى الوقوع في أخواتها، فالتعسفات المنهجية كذلك تقودك إلى أخواتها... ما لم يمارس الإنسان مراجعة نقدية صادقة، ينتصر فيها للحق والحق وحده!! 3- يلتزم نقد الكارهين ذواتهم في الأغلب بنقد إطار الثقافة العربية ولا يتعداه إلى ما سواه، الأمر الذي يجعل نقدهم لا يراعي جوانب التفاعل الديناميكي بين ثقافتهم وحضارتهم والثقافات والحضارات الأخرى، وهذا لا يعني أنهم لا يشتغلون بقراءة ونقل كثير من الأفكار من تلك الثقافات والحضارات الأخرى، ولكننا نشير إلى حالة من الانحباس المنهجي يتلبس به تحليلهم وطروحاتهم، فهم أشبه من يفكر داخل صندوق وهذا ما يؤكد أهمية النقد الثقافي في الإطار الحضاري (وهو ما سنعرض له في موضوعات قادمة بمشيئة الله في دراستنا عن التشخيص الثقافي). بل ويصر بعض المتطرفين منهم على تخطئة أو تهميش أو تسفيه الحركات النقدية للآخر (الغربي) بدعاوى كثيرة، ليس هذا مجال بسطها! 4- الميل إلى الإيمان بما يسمى ب (الثقافة العالمية) وهي تعادل تماماً (الثقافة الغربية) بحكم هيمنتها وكارزميتها وتفوقها العلمي والمنهجي والإجرائي، ويؤمن الكارهون ذواتهم بأنها يمكن أن تكون إطاراً عاماً لمنظومة القيم ومناهج البحث وطرائق التفكير وربما يذهب بعض متطرفي الكارهين ذواتهم إلى أن تلك الثقافة يمكن استخدامها في هندسة الحياة في مختلف المجتمعات، والأكثر خطورة أن بعضهم يتبنى - بشكل مباشر أو غير مباشر بوعي أو بغيره - الفلسفة التي تتخذ من خرافة ما يسمى بالثقافة العالمية محكاً مرجعياً يُقاس بها نجاح وتطور تلك الثقافات في تلك الميادين، متغافلين عن خصوصيتنا الثقافية، ولاسيما أن حركات بحثية متصاعدة في الغرب ذاته بات تصرخ فينا: (أن انتبهوا لخصوصيتكم)، كما في بعض الحقول المعرفية الجديدة كعلم النفس الثقافي المقارن Cross-Cultural Psychology، والحركة البحثية التي تؤمن بمبدأ (التنوع الثقافي / الحضاري) Multiculturalism (سيكون لي تفصيل مطول حول هذه القضية الخطيرة). 5- الإعجاب المفرط في الآخر (الثقافة الغربية تحديداً) لدرجة الانبهار الذي يستحيل أحياناً إلى نوع من التوحد (أو التقمص الوجداني Identification) الثقافي والحضاري الضارب في اللاشعور، بحيث تتلبس الأنا بالحالة العقلية والوجدانية والدوافع والسمات الشخصية للآخر. 6- الحدة في الشخصية والصرامة والجزم في طرح الموضوعات وقصر النفس في النقاشات مع ميل لتهميش آراء الآخرين والازدراء من اجتهاداتهم وطرق تفكيرهم. 7- النزعة التشاؤمية التي قد تصل بهم وبمن يؤمنون بطروحاتهم إلى حد اليأس المطبق وذلك بإيمانهم العميق بعدم إمكانية النهوض والتحضر في المجتمع العربي. 8- التغاضي غير المبرر بل والنسف أحياناً للنماذج المشرقة في الثقافة العربية المعاصرة، حيث يستمر الكارهون ذواتهم في تسويق الإخفاق ونكران أي لون من الإبداع العربي، وإن حدث شيء من الاعتراف فيرد إلى الاعتبار الشخصي أو الملكة الفردية مع نزع كل أثر إيجابي لثقافة الإنسان العربي في ذلك (كما في مقولة خارج النسق الثقافي!). 9- تصطبغ بعض طروحات الكارهين ذواتهم بالتعميم غير المنهجي مع نبرة وثوقية قاتلة، فوظيفة المثقف الكاره ذاته لا تتعدى حشد جمع كبير من أقبح وأشنع الصفات والسمات والأفعال والمواقف ليضع قبلها كلمة واحدة هي كلمة (عربي)... كما يقول عبدالله القصيمي في كتابه (العرب ظاهرة صوتية): (أليس المفكر العربي حينما يفكر، والحاكم العربي حينما يخطب ويهدد يتحولان إلى أفظع أساليب القبح لكل ما في الحياة من قيم وأشياء)... لينسف أولئك المثقفون بذلك النهج الاعتباطي أبسط مقومات المنهجية التي تقرر بأنه لا يجوز تعميم النتائج دون أن يظفر الباحث بأدلة كافية... فهم لا يخبروننا متى وكيف حصلوا على تلك النتائج وما الأدلة التي تخوّلهم بتعميمها على كل ما هو عربي... هل قاموا بأبحاث مضبوطة بضوابط المنهج؟، أم أنها مجرد نتائج ملاحظات محدودة أو خواطر ترد في أذهانهم حين يخالطون بعض جيرانهم وزملائهم وأصدقائهم؟... واقع عموم الكارهين ذواتهم يؤكد أنهم لا ينشطون في إجراء أبحاث علمية... وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الكارهين ذواتهم ينجحون وبكل براعة في غرس التفكير اللاعلمي لدى بعض الشرائح العربية، فالإنسان العربي (البسيط) حين يرى ذلك المثقف المرموق في شاشة التلفاز يقفز على بعض النتائج الخطيرة كتهميش المنجز العلمي والإبداعي في الحضارة العربية الإسلامية دون إيراد أدلة وبراهين على ما يقوله، فإننا نجزم بأن ذلك المثقف إنما يمنح تدريباً مكثفاً للمئات على التفكير العشوائي والخرافي، فكل يستطيع إذن أن يقول شيئاً من (الكلام)!... ولا أحد يطالب بالحجة... والكتابة البحثية تعني في نظر بعض الكتّاب السطحيين القدرة على إيراد جملة أو جملتين تحتويان على بعض المصطلحات المزركشة بألوان من السفسطة وشيء من التفلسف الأجوف..!! وتتجسد مصيبتنا حين يوصف بعض الكتاب التافهين على أنه مفكر عملاق لكونه امتهن خطيئة التعميم اللامنهجي... وتعظم المنزلة كلما أسرف في التهجم على (العربي) وعمم النتائج لتشمل كل من يقول بأنه عربي... ذلك العربي الذي لا ُيصلح شيئا ولا يصلح لشيء ولا َيصلح له شيء!! 10- عدم التعمق (النظري) في مباحث الإبداع، ويظهر ذلك بعدم مراعاة الكارهين ذواتهم لمقومات الإبداع وعوائقه ومهاراته وشروط صناعة بيئة الإبداع على مستوى الفرد والفريق والمنظمة والثقافة كما تؤكده الأبحاث العلمية، ويهمنا في هذا السياق الإشارة إلى أن نتائج الدراسات العلمية (النظرية والتجريبية) تؤكد أن الثقة في الذات والدافعية الداخلية شروط رئيسة للإنسان لكي ينتج عملاً إبداعياً في أي مجال كان، وخلص العديد من الدراسات إلى أن أي شك في قدرة الإنسان على الإبداع يعني حتماً انعدام القدرة على ممارسة أي لون من الإبداع. وقد بات جلياً لنا بأن الكارهين ذواتهم يغرسون اللا ثقة في الذات العربية ويوهنون الدافعية الداخلية على المستوى الفردي والجمعي ولاسيما أن طروحاتهم تتلبس بقدر كبير من التشاؤم و(النقد المميت)!. وبعد استعراض أبرز سمات الكارهين ذواتهم (العربية)، نود التأكيد أننا لا نقصد بالذات العربية - التي أخضعناها للتحليل - الذات العرقية (العرق أو الجنس العربي) وإنما الذات الثقافية، منطلقين من أن كل من تحدث العربية فهو عربي (كما جاء في الحديث) بغض النظر عن عرقه وجنسه، إذ إن تحليلنا الثقافي لا ينطلق ألبتة من نظرات عنصرية ضيقة، بل يطرحها ويمجها. وختاماً نشدّد القول على أن تحليلنا المبدئي لظاهرة الكارهين ذواتهم يجب أن يتبع بدراسات علمية أعمق منهجياً وأكثر تخصصا، كما يمكن أن تتخذ بعض تلك الدراسات طابعاً تطبيقياً مع إمكانية استخدام منهج دراسة الحالة والمنهج الانثربولوجي، كما أنه يتعين علينا تنفيذ أبحاث تتبع الأثر والمقولات لذلك الفكر في المحيط الثقافي ذي الطبيعة الشعبية ولدى كافة الشرائح في المجتمع العربي، علّنا بذلك نفلح في تفكيك شفرة (الفيروس) الخطر الذي قد يحيل الإنسان العربي إلى كائن كارهٍ لذاته!... لنبقي على البكتريا النافعة التي يجب أن تتغلغل في جسد الثقافة العربية؛ لتحلّل وتنقد وتنتزع الأمراض المستأصلة في أعضاء الروح والعقل والأخلاق! وأحسب أنه بات يسعنا الآن الانفكاك من قبضتي الكارهين ذواتهم والمتيمين بها، لنمضي - بلا عقد نفسية أو تشوهات فكرية - في معركة النهضة؛ نمضي ونحن متسلحون بالنقد المنهجي الصارم للذات؛ ذلك النقد المشبع بالثقة (المعتدلة) في ملكات الذات وقدراتها الخلاّقة على الإبداع في هندسة صرحنا الحضاري؛ وفق ثقافتنا نحن ومزاجنا نحن... لا ثقافة الآخر ومزاج الآخر!! * كاتب وأكاديمي سعودي