بالرغم من أن الحقيقة هي المرآة الصادقة التي تكشف للإنسان حسناته وعيوبه بوضوح ودقة دون زيف أو تدليس إلا أنها باتت ويا للأسف منبوذة من حياة بعض الناس وعلاقاتهم، الكل يتجنبها ويصم الأذان عن سماعها حتى بلغ بهم الأمر إلى أن يوصدوا أبوابهم في وجهها ولم يكتفوا بذلك بل نحروها عند عتبة بابهم تاركين المجاملة تتراقص فرحاً وطرباً فوق جسدها البريء الطاهر.. إيه أيتها الحقيقة لقد غابت شمسك وولى زمانك، وها هي المجاملة تتربع على عرشك وتدس انفها في كل شيء، فعلاقات العمل لا تكاد تخلو لبناتها من بعض المجاملات وكأن العمل لا يمكن أن يسير إلا بها.. حتى روابط الصداقة التي لا بد أن تكون قائمة على الصراحة والوضوح نجد الكثير منها ارتوى ونما من أوحال النفاق والمجاملة.. بل إننا نجد أن بعض العلاقات الأسرية استبدلت رباط الدم والقرابة ذلك الرباط المتين الذي لا يمكن لأحد أن يمزقه استبدلته بخيوط واهية نسجتها وصنعتها المجاملة.. وبذلك ظهر للمجاملة أنصار ومؤيدون كثر يعتمدون في معاملاتهم على قاعدة أساسية.. إما أن تجاملني وتخفي عيوبي فأجاملك واقضي مصالحك.. وإما أن تكون صريحاً معي وتكشف لي حقيقتي فأجعلك على هامش حياتي أو بمعنى اصح اعتبرك صفراً على الشمال. ولو انك سلكت الخيار الثاني معهم فإني اجزم لك انك لن ترى رفعة وجه هذا المجامل طوال حياتك فهو سيعمل جاهداً على أن يتحاشى اللقاء بك بما أنك أصبحت بالنسبة له المرآة التي تكشف عيوبه. كثيراً ما سألت نفسي: ما السر الذي يدفع بالكثيرين إلى سلوك طريق المجاملة والنفاق التي قد تأتي احياناً على حساب كرامتهم واحترامهم لأنفسهم؟؟ هل لأن الحقيقة طعمها مر يحرق القلب والوجدان!! وما ضير المرارة إذا كان ما بعدها راحة وطمأنينة للنفس.. فالمريض يتجرع الدواء على الرغم من مرارته أملا في الشفاء بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى.. أم أن الخسائر التي ستخلفها الحقيقة كبيرة جداً فما بُني في سنين قد يهدم في ثانية.. مما يتطلب إعادة البناء من جديد وهو ما لا يسمح به قانون هذا الزمن الذي طغت عليه السرعة فلا يكاد الواحد منا يجد وقتا يلتقط أنفاسه فيه.. أم أن الحقيقة أصبحت عقبة كبيرة في طريق من يريدون المجد والثراء الزائف! حاولت كثيراً أن أبحث عن أسباب مقنعة لمن يسلكون هذا الطريق لكني لم أجد سوى أسباب واعذار جبانة يتذرع بها الكسالى العاجزون الذين لا يملكون ولو ذرة من الاحترام لأنفسهم والمحافظة على شيء من كرامتهم التي جعلوا منها بساطاً يدوس عليه أصحاب المنفعة والمكانة في سبيل الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم.. متناسين أن البناء وان بلغ هامات السحاب لا بد ان يسقط إذا لم تكن أساساته متينة وقوية. عزيزي القارئ: اسمح لي أن أهمس في أذنيك.. أصريح أنت أم مجامل؟!