يتحمل الدعاة مسؤولية عظيمة في توجيه ضيوف الرحمن خلال موسم الحج إلى الكيفية الصحيحة لأداء مناسك هذه الفريضة الغالية والركن الخامس من أركان الإسلام، والتحذير من أي أخطاء تنقص من ثواب الحاج أو صحة أداء المناسك. فما طبيعة هذه المسؤولية، وكيف يمكن للداعية القيام بها على الوجه الأمثل؟ وهل ثمة شروط أو صفات يجب توافرها فيمن يتحمل مسؤولية الدعوة في الحج؟ وهل ثمة إجراءات يجب اتخاذها لإنجاح مهمة الدعاة في هذا الموسم العظيم؟ وغير ذلك من التساؤلات التي نحاول الإجابة عنها من خلال هذا التحقيق. في البداية يقول د. عبد الله بن عبد الرحمن الشثري عميد كلية أصول الدين بالرياض: إن ثمة شروطاً وقضايا ومجالات يجب على الداعية الحرص عليها والإتيان بها في دعوته إلى الله، سواء كان ذلك في الحج أو غيره، منها: 1- الإخلاص لله: فيكون الباعث له في الدعوة ابتغاء وجه الله. وهذا الإخلاص هو الذي يرفع شأن العلم ويجعل الله فيه الخير والبركة والقبول. والدعوة إلى الله عبادة، وقد أمر الله بالإخلاص له في كل عبادة بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والدعوة هي لله وفي الله، لا لحظوظ النفس، ولا لحظوظ الغير، فالذي يريده الله من عباده أن يتوجهوا إليه، ولأجل ذلك عظَّم الله شأن الدعوة إليه، وأخبر عن ذلك بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. 2- العلم: فلا يدعو الداعية إلا عن علم ومعرفة وبصيرة بما يدعو إليه، ولهذا قال الله جل وعلا: {عَلَى بَصِيرَةٍ}؛ أي: على علم ويقين بما يدعو إليه من غير شك ولا امتراء ولا مرية، منطلقاً من نصوص الكتاب والسُّنَّة. 3- الرفق والأناة: فالداعية ينبغي عليه أن يتحلى بهذه الصفة؛ فإنها سبيل إلى تحقيق المقصود من الدعوة؛ الرفق بحال المدعو ودعوته باللين واليسر، لا بالتعسير والتنفير. 4- الحلم: والاتصاف بهذه الخلة مطلب عظيم لكل داعية؛ لأن الداعية إلى الله سيواجه أصنافاً من الناس وطوائف متعددة، ولكلٍّ منهم مشرب خاص وتوجُّه مستقل، فيحلم الداعية على مَن هلَّ عليه، ويغضُّ الطرف عن الهفوات والزلات التي قد تصدر في حقه من الناس. والتحلي بهذه الصفة يكون سبباً في رفع المنزلة، وحصول البركة والتوفيق في حياة الداعي إلى الله. 5- الاقتداء والاهتداء: بأن يكون الداعية مقتدياً برسول الهُدَى في دعوته، مستنًّا بسنَّته، سالكاً هديه ومنهجه؛ لأن الله أمر بذلك في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. بيان منزلة التوحيد وحول المجالات التي ينبغي على الداعية إلى الله أن يسلكها في دعوته أيام الحج يقول د. الشثري: عليه الاهتمام والعناية ببيان منزلة التوحيد وفضله، وتصحيح الاعتقاد في نفوس الحجاج؛ ذلك أن التوحيد هو حق الله على العبيد، وهو أول واجب على المكلَّف. والمطلوب من أهل العلم والدعاة إلى الله بيان هذا الأمر العظيم لحجاج بيت الله؛ فهذا هو أصل الدين وقاعدة الإسلام، والتحذير مما يضادُّه من الشرك بجميع أنواعه والبِدَع والمحدثات التي تخالف التوحيد. فمَن تعلَّم العقيدة الصحيحة وحَذَر مما يناقضها فقد سلك الصراط المستقيم. يلي ذلك الدعوة إلى أداء الواجبات والقيام بالعبادة التي شرعها الله لعباده من الصلاة والزكاة والصيام. وقبل ذلك بيان معنى الشهادتين؛ فهما أعظم أركان الإسلام. فدعوة الحجاج لأداء هذه العبادات هو طريق لأداء الحج وفق المنهج الصحيح؛ فالعبادات كلها حلقة مترابطة تهذِّب النفس، وتقوِّي الإيمان، وتربِّي على الأخلاق، ولا سيما أننا نجد بعض الحجاج يحرص على أداء الحج والعمرة ثم يفرط أو يضيع بقية أركان الإسلام؛ ظناً منه أن الحج والعمرة يكفِّران ذلك. فالواجب الاهتمام بأمر الصلاة والمحافظة عليها، والقيام بأداء الزكاة والصوم، وهذه كلها فرائض على أهل الإسلام، ولا يُقبل حجٌّ ممَّن ضيَّع الصلاة والزكاة والصيام. كذلك دعوة الحجاج إلى تحقيق أخوة الإيمان والتعاون على البر والتقوى وإظهارها فيما بينهم، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. وتحقيق هذه الأخوة يُوجِد تضامن أمة الإسلام واجتماعهم على كلمة واحدة، فيتوحَّد الصف، وتتآلف القلوب، ويغتاظ العدو. والحج إلى بيت الله تتجلَّى فيه مظاهر أخوة الإسلام، وتزول فيه كل الفوارق بينهم. سلامة الدعوة في الحج أما الشيخ عبد الرحمن بن غنام الغنام وكيل وزارة الشؤون الإسلامية المساعد لشؤون الدعوة فيرى أن الحج المبرور لا يتحقق إلا بشروطٍ وانتفاءِ موانعٍ وقيامٍ بواجبات وانتهاءٍ عن منهيات؛ لذا تتضح جسامة مسؤولية الدعاة إلى الله في الحج. والأحكام والشروط والأركان والواجبات حتى الآداب التي تحقِّق الحج المبرور أمور لم يهملها الشارع، بل وضَّحها وبيَّنها بما يتناسب مع مكانة الحج، فهو الركن الخامس من أركان الإسلام، حضَّ الله عليه في كتابه العزيز في أكثر من موضع، وحضَّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان عملي وقولي كما هو منهجه دائماً صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (خذوا عني مناسككم). واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أداء هذه المناسبة بالكيفية ذاتها واجب؛ لقول الله جل وعلا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. وقد أدى الرسول صلى الله عليه وسلم الحج على أكمل غاية، وبسط نفسه للناس يُعلِّم ويُفتي، يُسأل فيُجيب، وميسِّراً على مَن لم يستطع الإتيان بما أتى به صلى الله عليه وسلم بقوله: (افعل ولا حرج) من التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر. ويستطرد الشيخ الغنام: ولضمان سلامة الدعوة في الحج لا بدَّ من توافر عدة شروط في الداعية العامل في هذا الموسم، بل وفي جميع المواسم. وأول هذه الشروط تقوى الله سبحانه وتعالى، وثانيها العلم الصحيح والعمل به، ثم تعليم الناس والتفاني في ذلك وطلب الأجر عليه من الله سبحانه وتعالى، وحب الخير للناس، والتلطُّف في النصح والتوجيه، والصبر على الأذى والمشقة، والقدرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، والتيسير على الناس. توجيه الحجاج ويقول الدكتور عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض : ان ثمة سبب مهم يُضاعف مسؤولية الدعاة في الحج، وهو أن مسائل الحج وأحكامه كثيرة جداً، وكثيرٌ كذلك اشتباه هذه المسائل على عموم الحجاج، منهم مَن إذا دخلوا في أداء مناسك الحج والعمرة دخولاً مباشراً ومارسوا ذلك ممارسة عملية غير نظرية تغيَّر عندهم الكثير من تلك المسائل، فاشتبهت عليهم، وهذا أمر لا علاج له إلا مع وجود الدعاة أصحاب العلم الشرعي بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم المراجع لحل تلك المسائل المُشكلة وإزالة اللبس الذي قد يحصل عند أولئك الناس. وحول الأمور التي ينبغي على الدعاة وطلبة العلم في الحج أن ينتبهوا لها يقول د. السحيباني: من هذه الأمور ما يلي: 1- أن يتذكر الداعية وطالب العلم فضل الدعوة إلى الله تعالى، وأنها من أشرف الأعمال وأفضلها وأعظمها، فيحتسب في ذلك الأجر عند الله تعالى الذي لا يُضيع أجر مَن أحسن عملاً، فإنَّ تذكُّر هذا الأمر معين له بإذن الله تعالى على أداء عمله بكل إخلاص وصدق. 2- أن يراجع المسائل الخاصة بالحج والعمرة مراجعةً دقيقةً قبل إتيانه للحج؛ وذلك لأن المرء معرَّض للنسيان، ومذاكرة المسائل المتعلقة بالحج ومراجعتها سبب رئيس للإتقان والضبط. 3- أن يتأنَّى ولا يتعجَّل في الإجابة قبل فهم السؤال فهماً جيداً. 4- أن يتأكد من سداد إجابته وفتواه، وإن تردَّد أو جهل المسألة فلْيُراجعْ مَن يعرف من العلماء الكبار عن طريق الهاتف، فإن تمكن من ذلك وإلا قال: لا أدري. 5- التلطُّف مع السائل والتواضع معه، والرد عليه بأسلوب حسن بعيد عن الفظاظة والغلظة. 6- الصبر على جهل السائل، ودفع السيئة بالحسنة، وعدم التأفُّف من كثرة الواردين عليه، لا سيما أن الداعية يمثِّل بلده المسلم. عظم المسؤولية أما د. عبد اللطيف بن سعيد الغامدي أستاذ حقوق الإنسان المشارك ورئيس قسم العلوم الشرعية بكلية الملك فهد الأمنية فيقول: الدعوة هي وظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولما كان توجيه ضيوف الرحمن خلال موسم الحج يقع ضمن أولويات الدعوة؛ لما في ذلك من إرشاد المسلمين وتعليمهم لأداء هذا المنسك العظيم والركن الركين من أركان الإسلام كان لا بدَّ للداعية أن يعرف طبيعة هذه المسؤولية؛ كي يستطيع القيام بها خير قيام. ومعرفة طبيعة هذه المسؤولية تتمثل في استشعار عظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، ومعرفة الأمانة المناطة بهم تجاه ضيوف الرحمن، واستغلال هذا الموسم العظيم وهذا الاجتماع الضخم في بيان العقيدة الصحيحة والدعوة إليها وكشف عوار الباطل وأهله والتحذير منه. وعن الصفات التي يجب توافرها فيمَن يتحمل مسؤولية الدعوة في الحج يقول د. الغامدي: هناك عدة أمور يجب مراعاتها في الدعاة العاملين في هذا الموسم العظيم، منها: 1- قيام الدعاة بمراجعة أحوالهم ومحاسبة أنفسهم من ناحية إخلاصهم في دعوتهم لله تعالى ومتابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن جميع الأعمال لا بدَّ لها من شرطين، هما الإخلاص والمتابعة. 2- الحرص على كافة أحكام المناسك والتحلي بالأخلاق الفاضلة من صبر وهدوء وحُسن معاشرة؛ ليكون داعيةً بسلوكه وأخلاقه قبل أن يكون داعيةً بلسانه. 3- إدراك العلماء والدعاة؛ جهاتٍ وأفراداً، عظم المسؤولية والأمانة المناطة بهم. 4- ترتيب الأولويات في الدعوة في أوساط الحجيج، والبدء بالأهم فالمهم. 5- الانتباه إلى أن الدعوة ليست توزيعَ كتبٍ أو إقامةَ نشاطٍ أو إلقاءَ كلمةٍ، بل محاولة التأثير على المدعو والسعي إلى تعليمه الإسلام النقي ليعمل به وتغيير ما يوجد لديه من معتقدات وسلوكيات مخالفة للشرع. السير على خطى الإمام ويؤكد د. عبد العزيز بن عبد الله الهليل وكيل قسم السُّنَّة وعلومها بكلية أصول الدين بالرياض أنه لزاماً على الدعاة اليوم أن يسيروا في دعوتهم على خطى إمام الدعاة والمتقين، فتكون دعوتهم مبنيةً على الأسس الآتية: - يجب أن يكون الداعية إلى الله تعالى قدوةً في العلم والعمل وحسن الخلق، يدعو إلى الخير بعد أن يأتمر به، وينهى عن الشر ويكون أبعدَ الناس منه. - ينبغي على الداعية إلى الله تعالى أن يكون على جانب من حسن الخلق، بشوشاً في وجوه إخوانه، سهلاً ليناً، رؤوفاً رحيماً، وأن يكون أبعد الناس عن خلق الغلظة والجفاء، مقتدياً في ذلك بسيِّد المرسلين الذي وصفه ربُّه تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وبقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. - الصبر على المدعوين واحتساب الأجر في ذلك من الله تعالى من أعظم الصفات التي يتميز بها الداعية إلى الله تعالى؛ فقد أمر ربُّنا عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}. وذلك لأن الداعية إلى الله تعالى يواجه في دعوته أصنافاً من الناس تختلف أعمارهم وأفهامهم وعقولهم وأخلاقهم، فهو مأمور - والحالة هذه- أن يكون واسع الصدر، متحملاً للأذى، صابراً على المدعوين حتى تثمر دعوته ثمارها المبتغاة. - على الداعية أن يبدأ في دعوته بالأهم فالمهم، وأن يهتم بالأولويات في دعوته، فيدعو إلى تحقيق التوحيد، ويحذِّر من الشركيات والبدع والمحدثات، ذلك أن تحقيق التوحيد هو أساس صحة الأعمال وقبولها، وأن الأعمال مهما كثرت وتنوعت فإنها مردودة على صاحبها إذا كان واقعاً في الشركيات والبدع. - الدعوة إلى الله تعالى لا تكون مؤثِّرة ومثمرة ما لم تكن مبنية على العلم الصحيح المبني على الفهم العميق للقرآن الكريم، وعلى المعرفة الواسعة بالسنة النبوية، ذلك أن من خصائص الداعية الحق أن يكون على علم بما يدعو إليه وبما ينهى عنه، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاستغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. ويضيف د. الهليل: الدعوة إلى الله تعالى لها مجالها الرحب والواسع في موسم الحج وفي ربوع المشاعر المقدسة، ذلك أنه يجتمع في هذا الموسم عدة خصائص تجعل الدعوة إلى الله تعالى تحقِّق ثمارها وتؤتي أُكُلها. ومن هذه الخصائص: خاصية المكان، فمما لا شك فيه أن المشاعر المقدسة لها أثر عظيم في نفس الداعية والمدعو؛ فهي قد ميَّزها الله تعالى عن بقية الأماكن، وخاصية الزمان: وذلك أن أشْهُر الحج أشهر معظَّمة بسبب ما شُرع فيها من عبادة الحج التي هي أحد أركان الإسلام العظيمة، وخاصية التقبل والإقبال: فالحاج في هذه الأجواء الإيمانية مقبل على الخير، مبتعد عن الشر، قد سَمَتْ نفسه وكرمت أخلاقه، كيف لا وقد جاء إلى هذه المشاعر امتثالاً لأمر ربه تعالى بأداء هذه الفريضة العظيمة. قاعدة علمية متينة أما الأستاذ الدكتور سليمان بن صالح القرعاوي أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك فيصل بالأحساء فيقول: تجلَّت حقيقة الحج من خلال عدة أمور: 1- قبلة واحدة يتَّجهون إليها في صلاتهم من مشارق الأرض ومغاربها، وهذه القبلة هي التي يتَّجهون عندها ليؤدوا شعائر مناسك الحج. 2- عقيدة واحدة، فالجميع يلبُّون تلبية التوحيد لله لا شريك له. 3- لباس واحد، فالجميع يلبسون في الإحرام لباساً واحداً، فتزول الفوارق بين الناس. 4- في الاجتماع في صعيد عرفات -مكاناً وزماناً- تتوحَّد الأمة الإسلامية كلها؛ حجاجاً وغير حجاج. وبما أننا نرى الملايين من البشر في الحج تتوافد على الأماكن المقدسة، ومنهم مَن لم يعرف من الحج شيئاً، فإن الفرصة تصبح مواتية لأن يتصدى أهل العلم لتعليمهم أصول الدين وتفقيههم بأحكامه، والإجابة عن استفساراتهم؛ حتى لا يبقى المجال مفتوحاً لسؤال المتعالِمين الذين فقدوا أهلية الفتوى، ولا المُعقِّدين والمعطِّلين؛ لذا ينبغي لمَن يتولى مهمة توجيه الناس وإرشادهم في هذه المناسك أن يكون ذا قاعدة علمية عريضة متينة، ومرونة فكرية في ضوء الشريعة؛ كي ينهج التيسير على الناس عامة، وعلى الحجاج خاصة؛ لأن التيسير أصل من أصول الشريعة السمحة كما هو معلوم ما دام أنه لا نصَّ على خلافه، فإذا جاء النصُّ لم يجُز التيسير بالرأي، وهذا هو الموقف الوسط العدل الذي يجب على كل داعية أن يلتزمه، ولا عبرة بعد ذلك بأقوال الناس واعتراضاتهم. ويضيف د. القرعاوي: إلا أنه نظراً لكثرة الحجاج تلك الكثرة التي لا تُضاهى في أي بلد أو أي تجمُّع آخر فإنني أقترح زيادة أعداد الدعاة والمُفْتين في الحج بما يتناسب مع أعداد الحجاج، وألا تسمح وزارة الشؤون الإسلامية والجهة المختصة بالفتوى إلا لمَن تأكَّدت من جدارتهم العلمية ومرونتهم الفكرية في ضوء الشريعة الغراء، وحبذا لو أُنشئ مركز خاص بعلماء متمكِّنين مشهورين للتصدُّر للفتوى بالمسائل التي يقصد دعاة الشباب الفتوى بها، مع تحذير شباب الدعاة من التسرُّع بالفتوى أولاً، وثانياً يُوضع لهم خط وحدود معينة في الفتوى، بحيث إذا سُئِلوا عما هو خارج هذه الحدود المرسومة لهم أحالوا السائل إلى المركز. صفات الداعية من ناحيته يقول الشيخ إبراهيم بن نزال السليمان الداعية بفرع وزارة الشؤون الإسلامية بالجوف: لا ريب أن على الداعية إلى الله جل وعلا في هذه البلاد مسؤولية عظيمة في موسم الحج. ومن هنا كان لزاماً على الداعية إلى الله في هذا الموسم أن يتحلى بعدد من الصفات، أولها وأعظمها هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى الذي هو رأس كل عمل صالح، وبقدر إخلاص المرء في دعوته يكون نجاحه وقبول دعوته. وثانياً: أن يكون على علمٍ فيما يدعو إليه مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها. وثالثاً: يجب على الداعية أن يتخلق بأخلاق إمام الدعاة نبينا صلى الله عليه وسلم التي أعظمها الفقه والحلم والرفق ورابعاً: يجب على الداعية أن يكون حكيماً في دعوته، ولهذا قال جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. فالحكمة تارة تكون بالرفق واللين، وتارة تكون باستخدام الموعظة من ترغيب أو ترهيب، وتارة تكون بالجدال بالتي هي أحسن، وتارة تكون بالقوة، وهكذا كلٌّ بحسبه، فليست دعوة العامي كالمتعلم، وليست دعوة المقبل على الخير كالمجادل المعاند. وخامساً: لا بدَّ للداعية من استخدام كافة الوسائل في دعوته، وهي كالتالي: 1- وسائل قولية: كالخطب، والدروس، والمحاضرات، والندوات، والمناقشات، والكلمات الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والأشرطة السمعية والمرئية ونحوها. 2- وسائل كتابية: كالرسالة، والكتاب، والكُتيب، والمطويَّة، ونحوها. 3- وسائل علمية: وذلك بالتركيز على الجانب الفعلي؛ فإن المسلم داعية إلى الله بسيرته الطيبة، وبأخلاقه الكريمة، وأفعاله الحميدة، والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً؛ لأن التأثير بالفعل أكثر من التأثير بالكلام. ولا بدَّ من الصبر وعدم الملل من الدعوة إلى الله؛ فإن هذه الجموع العظيمة أتت وهي تحمل خليطاً من أخلاق الناس على شتى أنواعها وصورها، فقد يجد الداعية أموراً ومخالفات وشركيات وبدعاً كثيرة، فلا بدَّ أن يصبر على إنكار المنكر، ولا يكلَّ ولا يملَّ لكثرتها. قضية المرأة وحول مسؤولية المرأة الداعية في الحج تقول د. رقية المحارب:ما أجمل أن يعلن خطيب عرفة أمام هذا التجمع العالمي الرؤية الإسلامية العادلة لقضية المرأة، وما أعظمها من فرصة حيث تنقل الخطبة إلى كل مكان بالصوت والصورة مترجمةً إلى كل اللغات الحية. وفي وقت تُقام فيه الاحتفالات والفعاليات والمؤتمرات للمطالبة بحقوق المرأة بمناسبة يوم تحرير المرأة الذي لا يفصله عن يوم عرفة إلا خمسة أيام، فإن المرأة المسلمة تأمل من هذا التجمع الإسلامي العالمي أن يطرح قضيتها ويضع النقاط على الحروف لأكثر من ستة بلايين من البشر يعيشون هذه اللحظة. وتتساءل د. المحارب: ماذا أعدَّت المرأة الداعية للحج؟ وماذا في ذهنها من هموم وقضايا تطرحها على أخواتها؟ وماذا أعدَّ الرجل الداعية أيضاً لأخته المسلمة مهما كانت لغتها ولونها وبلدها؟ وماذا أعدَّت مؤسسات الإصلاح للإفادة واستغلال هذا التجمع الفريد؟ فليس من الحكمة أن يمر هذا الموسم العظيم على المسلمين دون أن يستثمر، وهل تجيئ الجموع تلو الجموع وتذهب دون أن يضاف إلى الرصيد المعرفي والإيماني شيء، ودون أن يتم التعارف الأخوي الذي يزيد الإيمان؟! وكيف يغيب عن ذهن المسلمين استثمار هذا الحشد الكبير في تأصيل الانتماء والحرص على سلامة النهج؟! مؤكدة أنه يتعين على أهل الخير عمل الكثير وتطوير التعامل مع هذا الحدث بما يليق به، والواجب أن تهتم المرأة والرجل ومؤسسات الإصلاح في كل البلاد الإسلامية بهذا الموسم العظيم، فتعمل جاهدة على استثمار كل دقيقة منه؛ لأنه من الخسارة أن تذهب الداعية للحج ولا تضع في ذهنها مثلاً بثَّ الخير في النفوس بالكلمة الطيبة والوجه الباسم والحرص المخلص على معنويات صاحباتها في هذه الرحلة الإيمانية المباركة. وليس بالضرورة أن يكون كل وقت الرحلة دروساً ومواعظ، بل يكون للقاءات الاجتماعية الناضجة التي تقرِّب النفوس، وتعزِّز التعارف لمستقبل علاقات طيبة يتم فيها التعاون على نشر الخير، وأيضاً يكون وقت للصلاة وقراءة القرآن والقراءة في الكتب النافعة، ويكون أيضاً فرص للتخفيف عن النفس بالمسابقات الثقافية والبرامج المختلفة. وتضيف د. المحارب: ومن عظيم ما يجب على الداعية التزوُّد بالفقه، لا سيما في الأمور التي يكثر الاستفتاء حولها؛ كمسائل الحج والطهارة والصدقة، ولكن ينبغي الحذر من الفتوى بلا علم. والحج ضمن حملة منظَّمة تتوافر فيها كل أسباب الراحة فرصة كبيرة للدعوة والتأثير على الناس، ولذا فإني أتمنى من أصحاب الحملات أن يحرصوا على استقطاب الداعيات المتمكنات؛ حتى يستفيد النساء ويَعْلَمْنَ آداب الحج وأعماله اليومية.