تدلهم ثنايا الأمور، تأرق المقل عن منايا الغط في عالم الهناء والأحلام، وتكرب الخواطر عن إدراك هنيهات سانحة من لحظة تملأ عبق رحيقها بالراحة، وتغيب عن خيالها متع من أوقات هانئة كانت تدرك نتفاً منها قبل أن تغادر تحت شفق المغيب، ولا يعد من وقته إلا ساعات كربه وضيق صدره، ولا يحسب من عمره إلا ما قضاه في نكد وضجر، ولولا فسح له الخاطر لزأر بكل قواه عساه أن يفجّر غضباً مكبوتاً في صدره فيبثه بين القفار والهضاب، وتحتمل معه الآهات الخانقة شزراً، وتراه في لحظة غارقة يحمل الجبال على رأسه ويجوب بثقلها أيما مكان يحط فيه رحاله، وقد رزحت خطواته تحت ثقل صارخ وبطء في المسير يبعث إلى النفس الشفقة والوجل، ومن حوله تتقافز وتطاير أبدانهم وقد تراءى للناظر مدى رشاقتها وسريان حركتها مع طبيعتها، ولن يخطر على القلب أنه ممن تشعبوا في غمار الحياة ممن أثقلوا كواهلهم بدنايا الأمور، فحملوها فوق عواتقهم وساروا يطوفون بها كل مكان، هي الهموم تطارد صاحبها أينما يحل من مكان، وتقض مضجعه عن أوصال المنام، وتزلزل رأسه من صخب الأوجاع والآلام، هموم تفاوتت مثالبها وتزايدت قسوتها، ومرماها نقطة لا تجاوزها، تكدير قلب وقتل ابتسامة وتحطيم فرحة، لا أراها إلا نسراً يحوم الحمى يرقب فريسته عن كثب، يتحيّن الفرصة المواتية للانقضاض عليها والفتك بها، كذاك هي من العوالي تنتظر وبشغف تأمل ولا ترجف، أرى صاحبها أسير لحظتها بين القيود تمزق بدنه وهو يرفل بسخطها وفجاجة لحظاتها، ألا يا هم تُراك خيبت الآمال ومزقت طموح الرجاء عن الغوص في بحر الخيال، ألا يكفي ما قدمته وما صبت إليه من فعل، أما زال حلمك يمني نفسه بجديد وببعث مديد، وقد سطرت نفسك بأشكال وصور، تنفذ إلى أصحابها بكل ما يثير شجنهم ويكدر صفو أنسهم، ألا إنها سهام ذات نصل خارق، نفذت إلى الأبدان وأصابت القلوب في مقتل، وضاهت الجراح في مكامن الأوجاع، وقويت شوكتها في مداومة الألم وقتل الأحلام، إنه أسير هذه اللحظات وحبيس في بوتقة الكدر الغارق لأخمص القدمين، وقد جلس القرفصاء يحاكي نفسه من خلف سياج حارق، ويشكو إليها إدمانه المكان وضيق أفق قلبه له، ولا يفتت قوامها ويحطم رباطة جأشها إلا الخضوع لنفوذها والانصياع لبواطنها، ألا يكفي أن حبال الأمل ممتدة إلى شهب السماء، وشروقها متجدد مع انصهار الفتوق من نياط الجرم الصغير المستكين في صدر المرء، ولا تعصف أوهامه محاط النور وهي تتسلل بروية إلى الناظر، وتعم النور في المحيط، وتلقي بظلالها نحو فج ظاهر من الراحة والتفاؤل، إنهم فئة لم تتوان نفوسهم عن انتظار لحظة الأمل، ولم تسود أبصارهم مع غياهب الظلمة الممتدة على مدار الزمن، بل ظلت وجوههم تتوهج بالفأل، وترفض القهر تحت رزح الضغوطات، فليمسك كل منا بمجامع قبضته وليوجهها إلى كل ما يكدر صفوه، فيتناثر القهر وتسلط الهموم ويتبدد من معالم حياتنا. أحمد بن خالد أحمد العبد القادر *** واحة الأحساء شموخ.. منار.. كفاح كانت الرفيقتان على شاطئ البحر تتسامران.. وبعد هنيهة.. قالت إحداهما للأخرى: - رفيقتي مذ جئنا هنا وأنا أشعر بشيء ما يدور في عينيك.. أشعر بوميض من الحديث المختلف.. الدافئ.. يريد أن ينطلق كأجمل عصفور.. يحلق في الفضاءات الواسعة.. فوق زرقة هذا البحر.. هيا حدثيني ولا تخفي شيئاً.. - أجل لقد صدق حدسك.. فاستمعي إذاً لحديث لم يسبق أن بُحْتُ به لغيرك.. فجعلت تنظر إلى الأفق البعيد.. خلف هذا البحر.. وهي تزيح خصلات شعرها التي تداعب وجهها المشرق.. فتمتمت تقول: الحياة.. آه ما أجمل الحياة.. الحياة جميلة.. الحياة سعادة.. أجل.. سأبتسم للحياة لتبتسم لي.. سأنشد كل ما هو جميل.. سأقبل على الدنيا بقلبٍ واسع.. سأظل أحلم وأحلم إلى أن تتحقق أحلامي.. وإن لم تتحقق جميعها فيكفيني تحقق حلم واحد منها.. سأعتلي تلك الجبال الشامخة لأكتسب منها صفة الشموخ.. الصبر والإباء.. سأتسلق الجبل لأصل للقمة.. فأشعر بمعنى الجد والمثابرة.. وحلاوة الوصول بتفوق.. ثم أنظر للأسفل.. فأقف لحظات وأتأمل المسافة البعيدة.. ثم أعتز بهذا الصعود الهائل.. سأنطلق مع البلابل الشادية.. كي أطرب عالمي.. وأصخب ساحتي.. سأحطم أسوار الألم.. سأعتلي حواجز القسوة.. سأوصل حياتي إلى مرفئها بأمل طموح.. سأحاول أن أحقق كل ما أصبو إليه.. أجل.. أجل هذا ما سيحدث.. (بعد مشيئة الله)..سأترك لي بصمة في هذه الحياة.. سيقتدي بها مَن يأمل حياة ناجحة وسعيدة.. سأكون مثالاً للصبر.. مثالاً للطموح.. سأسير فوق الأشواك.. لأني حتماً.. حتماً سأصل للورود.. سأبتسم دوماً لأني حتماً سأضحك دائماً.. سأملأ حياتي سعادة.. سأبحث عنها في كل مكان.. سأطرق كل باب باحثةً عن السعادة.. سأغامر.. أجل أغامر لم لا..؟ فأنا أعشق المغامرة.. فإن كانت النهاية سعيدة فهذا ما نشدته.. النجاح الذي يوصلني لأعلى القمم.. وإن كان العكس تماماً فالفشل بالنسبة لي رائع..! بل طموح بحد ذاته.. سيعلمني الكثير.. وسأذوق مرارته لأتجنبه دوماً.. الفشل سيقوي عزيمتي.. ويصحح بصيرتي.. لن أحزن أبداً إن قابلته.. لن أغمض عيني عنه.. بل سأعقد جلسة معه.. وسنتناقش بموضوعية بعيداً عن الرومنطقية.. لآخذ بكل ما هو صالح.. وأترك كل ما هو طالح.. سأذهب للطبيعة الخلابة.. وسأتذوق كل جميل فيها..سأستمع لزقزقة العصافير.. وأطرب لها.. سأترك لخيالي أرضية خصبة ينطلق من خلالها للعالم الواسع.. سأتعلم من الكبار كيف تكون العزيمة.. وكيف هو الصمود.. وسأتعلم من الصغار.. أجل من الطفل ذاته.. معاني السعادة والفرح.. وكيف يكون المرح.. سأتعلم منه الرقة والطيبة والحنان.. سيجذبني إحساسه المرهف.. وشعوره الفياض.. سأنظر لعينيه ملياً.. لأتذوق الطعم الآخر للحياة.. وسأنطلق في الوديان.. لأكتسب خفة الغزلان.. خفتها في كل شيء.. ومن الأسد عزته في كل أمر.. ثم سيثير حنان اللبوة.. وسيشدني مكر الثعلب.. وحتماً لن يفوتني أن أتأمل رجاحة عقل الذئب..! بعد ذلك.. سأحط رحالي في الصحاري.. لأبحث عن سفينة الصحراء.. أعلم بأنه سيحرقني لهيب الشمس.. ولكني لن أبالي.. سأبحث عنها إلى أن أجدها.. فأنظر إليها وأتأملها ملياً.. ملياً.. لأكتسب منها كل شيء.. كل شيء..وبعد ذاك.. أجل.. سأبحر في المحيطات.. وأتعلم من الأسماك العمل الدؤوب بنشوة وبسمة.. فأنطلق للحيتان.. وأرقبها من بعيد.. كيف تلتهم فريستها.. لأتعلم منها وأجابه الأعداء.. ثم أنطلق هناك بعيداً لعالم آخر.. فأتصفح الكتب وأقرأ الصحف.. لأكتسب من حصيلة ذاك.. وأستفيد من تجربة هذا.. لتقوى شكيمتي أكثر في هذه الحياة.. وتزدان لغتي الحبيبة..سأتعلم أن التجديف عكس التيار ليس سهلاً.. لكنه ممتع وشيق.. سيعلمني الجد والمثابرة.. فأنا لن أنهار.. بالتجديف عكس التيار..ثم أنطلق للتاجر وأتعلم منه كيف يكون تدبير الأمور.. والحكمة في كل شيء.. وأذهب للعامل لأشعر معه بقيمة كل قرش.. مقابل العمل بكفاح.. ولذة ذاك القرش من تعب الجبين..ثم أنطلق للغني وأتعلم منه.. وأعود للفقير فوراً.. وأكتسب منه.. وماذا سأفعل أيضاً..؟ أجل سأقرأ كل كتاب شائق.. فبالتأكيد لن يتسرب الملل لسويعات يومي. سيظل يرن في ذاكرتي دوماً.. أنه مهما طال ظلام الليل.. لا بد.. أجل لا بدَّ من انجلائه بنور النهار.. وسأبكي حمامة السلام الجريحة في هذا العالم.. لكني سأقف معها إلى أن تعاود التحليق مرة أخرى.. سأصعد السلالم.. خطوة.. خطوة.. وأنزل أيضاً.. لأتعلم كيف أنزل درجة وبعدها أعتلي درجات.. بثقة وبرزانة واقتدار.. سأتأمل الورد.. وكيف نما على أرض خصبة كريمة.. فالأرض الخصبة تنتج زهراً وأريجاً.. وسأنظر للحنظل.. وأعرف أن الأرض البوار لن تنتج إلا ما هو أقبح منها.. ثم أنتقل لعالم آخر.. أذهب للمعلمة في مدرستها.. لأتعلم أن مَن جدَّ وجد، ومَن زرع حصد.. وللأستاذة في محاضرتها.. لأتأكد أن العلم أجلُّ رسالة شهدتها البشرية.. فأنطلق لعلماء الدين.. وأوقن أن رأس الحكمة مخافة الله.. وأن حلاوة الإيمان.. بالصلاة والدعاء.. وكتاب الله.. أجل كتاب الله.. فهو مليء بكل ما هو مفيد وجميل.. هو بحر اللغة الذي أبحث عن صدفاتها ولآلئها.. فهو معلم خير معلم.. سأتعظ بقصصه.. وسأعمل بأحكامه وأوامره..ثم أنطلق بعيداً.. هناك بريداً.. لأقف عند حدود بلادي.. وأحتضنها بكل شوق وصدق ليعلم وطني.. أني لن أنشد لغيره.. ولن أكتب لسواه.. لن أرضى ببديل عنه.. فأنا فداء له..ثم.. ثم ماذا..؟! أجل.. سأقلع مع السحاب.. سأقلع مع السحاب.. ليحلق بي بعيداً.. فأتعلم معنى الوصول للقمة بنجاح.. أجل سأحلق بعيداً.. بعيداً على متن السحاب.. هناك على الغمام.. وأنظر لكل ما سبق.. لكل ما سبق.. سأنظر للعالم أجمع.. سأحلق على كل بيت.. وعلى كل بلد.. سأتعلم وأتعلم.. وبذلك أكون قد دخلت جميع مدارس الحياة.. وألممت بها.. فتخرجت منها بكل جدارة.. لأستحق أن أحمل بجعبتي شهادات عدة.. تؤهلني لحياة أجمل من جميلة.. وأسمى من رفيعة.. سأبني حياتي بكل ثقة.. سأخطو نحو الأمام بخطوات متأنية.. هادئة.. أرتِّب لكل خطوة قبل أن أخطوها.. لأعلم أين سيقع الهدف..سأبتسم للحياة.. فالحياة جميلة.. أجلْ جميلة..سأحلم.. فجميعنا نتقاسم الأحلام.. كبيرنا وصغيرنا.. على اختلاف مشاربهم.. فالحلم ملك للجميع.. أجل.. سأحلم.. سأحلم في كل شيء.. *** هذه هي شموخ.. وهذه هي منار.. هذه هي كفاح.. اللاتي أراهن في نفسي.. - أيا رفيقتي.. هذه هي رحلتي مع حرف السين.. التي شعرتِ بوميضها ينطلق من عيني.. والآن.. ألست معي في كل ذلك.. يا رفيقي..؟! -....!! جميلة هليل **** عندما ينزل المطر الشتاء بالنسبة لي هو فصل التأمل والاسترخاء، تستهويني قطرات المطر المتساقطة ممزوجة ببريق البرق مكونة لحناً مع صوت الرعد يا لها من سيمفونية رائعة لا أملها ابداً ما حييت، كم أحب رؤية الأرض اللامعة وهي تتلألأ تحت المطر أستغرب عندما أرى الناس يركضون هرباً من البلل في حين أتمنى البقاء تحته أبداً ما حييت فكأنها مسرحية شعرية لا تنتهي فصولها فينفض الحاضرون عنها، أسير تحت رذاذ المطر الذي يداعب وجنتي تارة ويداعب مشاعري تارة أخرى، كم أتمنى أن لا ينتهي هذا الطريق فأفيق من حلمي الجميل كما يستهويني هذا الشعور الأخاذ، خاصة عندما أكون وحدي في مكان منعزل عن الناس بعيداً عن الضوضاء حتى أكمل انسجامي مع الطبيعة، فأكمل حديثي معها عندها تتحول أصوات الرعود إلى تغريد عصافير تداعب أذني والمطر إلى نسمات هواء متبعة برائحة الزهور تعيد إليَّ الراحة والسكينة وهدوء البل والاتزان، أما البرق فيضيء لي قلبي وعقلي، كم أتوق لهذا الشعور فكأنني ولدت من جديد. اللهم أنزل علينا مطراً نافعاً غير ضار يا رب يا كريم. فهد عبدالله الفيصل