إن الأمة الإسلامية جمعاء اليوم تتجه أنظارها وقلوبها، بل وأبدانها، إلى البقعة الطاهرة، والأرض المقدسة، حول بيت الله العتيق الذي جعله الله: (مثابة للناس وأمناً) (البقرة: من الآية 125)، وإن الناظر اليوم إلى اجتماع العالم الإسلامي كله على عيدٍ واحدٍ، وحول بيتٍ واحدٍ، وفي بقعة واحدة وبزي واحد، يظعنون سوياً، ويرتحلون سوياً، لهو أكبر دليل على أحدية هذا الدين، وأنه لا يقبل التعدد والاختلاف، لأن الرب واحد، والنبي واحد، والشريعة واحدة، ولهذا نحن نعلن لله الرضا بهذه الأصول المفردة في كل يوم بقولنا (رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً). وهذه العلامات الظاهرة تدعو الناس أجمع إلى السعي الجاد لمعرفة (الدين) الذي أوجبه (الله) على لسان (رسول) الله- صلى الله عليه وسلم-وحج بيت الله الحرام، وشعائره المجمع عليها، أكبر دليل على هذه الأحدية (الإلهية) و(الدينية) و(النبوية)، وهذه الأصول الثلاثة هي آكد ما يجب على العبد معرفته والايمان به، ولهذا يسأل عنها الانسان في قبره (من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟). فإذا كان يقرّ بأن الله ربه لا شريك له، فلا يجوز أن يصرف شيئاً مما يجب لربه إلى غيره، فتكون سائر أنواع العبادة له سبحانه، من صلاة، وزكاة وصوم، وحج، وطلب جلب الخير، ودفع الضر، والرجاء والرغبة، والخوف والرهبة، والاستغاثة والاستعانة، وسائر العبادات لا تكون إلاّ لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له؛ وإلى هذا الأصل دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ناس، كما قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران: 64). وإذا كان يقرّ بأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- هو النبي المرسل المتحتم على سائر الأمة اتباعه فلا يجوز له أن يخالفه في أمره، أو أن يشرع في دينه ما لم يأذن به- صلى الله عليه وسلم،- وقد قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة: من الآية 3) فبه أتم الله الدين، فلا يجوز أن تشرع عبادة لم يشرعها محمد -صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: (أن من اتبع في الدين بدعة فقد اتهم محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأنه خان الرسالة)، وقد حرّم النبي -صلى الله عليه وسلم -الإحداث في دين الله تعالى ما لم يأذن به، ويشرعه عن ربه، فقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وقال: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد) أي مردود عليه لا يقبل، وقال- صلى الله عليه وسلم-: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، وهذا المعنى كله يرد على من ظن أن شريعته- صلى الله عليه وسلم- لم تف بحق المستجدات العصرية، والتقلبات الزمنية، وأنه قابل للتجديد، والعبث بالثوابت، وذلك لأن من تمام شريعته أنها صالحة لكل مكان وزمان، وأن بعثته شاملة لكل من جاء بعده إلى يوم الدين، وأنه حجة الله على خلقه، والشاهد عليهم كما قال تعالى: (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) (النساء: 41). وإذا كان يقرّ المسلم بأن الدين واحد والشريعة واحدة، فلا يجوز له أن يطلب (الحرية) فيطلب شريعة غير شريعة الله، وحكماً غير حكمه، فهو لله عبد وبهذه العبودية ينال العزة والرفعة في الدارين من أراد أن يحدث: قانوناً، أونظاماً ودستوراً، أو طريقة يضاهي بها شرع الله تعالى ودينه، فإنه لن يكسب من وراء ذلك إلا ضد ما تروم اليه نفسه، وذلك لأن الله تعالى أصلح الأرض بحكمه وعدله وشرعه، وكل ما خلا ذلك فساد في فساد، قال تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (الأعراف: من الآية 56)، وكتب في الدين الذي شرعه الله تعالى على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-: الحياة الطيبة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) (الأنفال: 24) وقال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (النحل: 97)، والعمل الصالح هو الاسلام. ومن تأمل في شريعة الإسلام (عقيدة) و(أحكاما) و(معاملات) و(حدوداً) و(آداباً) وجد بأنه الأكمل الأتمّ الأسلم لصالح هذا الكون، حتى إن عقلاء الأمم المخالفة للاسلام دانت بهذه الحقيقة ولم تستطع جحدها ونفيها، فما عزت البشرية إلا بهذه الشريعة، وما حفظت حقوق الانسان رجالاً ونساءً إلا بهذه الشريعة، فأي دين يراد بعد الاسلام؟!. واليوم وما نشاهد فيه المسلمين في هذا الموقف العظيم يوم (عرفة) تستقبل وجوههم قبلة واحدة ويدعون رباً واحداً، ويصلون صلاة واحدة، على هيئة واحدة، كل هذه الصور لابد وأن يقف معها المسلم وقفة صادقة تكشف له ظلاماً مدلهما، وتريح باله من خلافات طاحنة أكلت الأخضر واليابس من رياض القلوب والمحبة، ويسأل نفسه بنفسه لكي يحظى بنجاة نفسه!، ويقول: إذا (كنا) الناس في (تلك البقاع الطاهرة) هكذا، في صورة واحدة تذهل العالم بأسره في حسن الاتفاق والوفاق، فلماذا الاختلاف؟ واين وقع؟، وكيف أنجو منه؟، أسئلة لربما فقد الاجابة عنها من يدعي العلم، فكيف بمن يعتريه الجهل! أرأينا لو أن رفقة في سفر استظلوا تحت شجرة، ثم أظلم عليهم الليل ثم ارتحلوا من مكانهم، وفي الطريق فقد كل منهم صاحبه!، أليس من العقل والحكمة أن يرجعوا في الغد إلى المكان الوحيد الذي اجتمعوا فيه آخر مرة؟!، فكذلك العاقل اليوم عندما يرى هذه الخلافات، وتلك المنازعات، ليرح باله ويستريح من الأخذ والرد، وليرجع للمكان المجمع عليه (كتاب الله) و(سنة نبيه صلى الله وعليه وسلم) امتثالاً لقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء: من الآية 59)، كل ذلك على طريقة أنصار دين النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة الكرام حتى يكون من الذين اتبعوم بإحسان فيكسب رضا الله تعالى، وليخلع من رقبة عنقه: كل مقصود غير الله، وكل متبوع غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل دين غير دين الله، وليرجع إلى هذا القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه: (تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: من الآية 89)، فهل يعقل ألا نجد فيه بعد هذه الأوصاف طريق الهداية والنور؟!.