وقفتُ على محاضرة لعبد الحقّ فاضل، ألقاها في ثانوية الزهراء للبنات في مرّاكش. وهذه المحاضرة منشورة في (مجلّة المورد العراقيّة في المجلّد الخامس، العدد الرابع الصادر في عام 1397ه/ 1976م من الصفحة السابعة عشرة حتّى الصفحة الحادية والعشرين). طرح عبد الحقّ فاضل في هذه المحاضرة مجموعةً من الأفكار حول اللغة. ومن أبرز هذه الأفكار التي أودّ مناقشتها ما يأتي: الفكرة الأولى: أنّ اللغة العربيّة أصلٌ للغات كلّها(1). الفكرة الثانية: مصدر معرفة أصول الكلمات في مختلف اللغات هو المعجمات العربيّة(2). الفكرة الثالثة: التطبيق العمليّ لفكرة التأثيل اللغويّ بتأصيل كلمة (مكّة)(3). ولمناقشة الفكرة الأولى التي مفادها أنّ اللغة العربيّة هي أصل اللغات كلّها فإنّي أقول: لا دليلَ علميًّا على هذا الرأي، ولم يقل به أحدٌ رأيُه معتبرٌ؛ لذا يقول عبده الراجحي: إنّ «الدرس اللغويّ الحديث يقرّر - في نهاية الأمر - تنحية البحث في هذا الموضوع من مباحثه؛ ذلك لأنّ العلم لا يبحث إلا فيما تؤكّده المادّة المحسوسة، وليس من سبيل الآن لدى الإنسان أن يصل في هذا الموضوع إلى نتيجة يطمئنّ إليها المنهج العلميّ، وكلّ ما يمكننا الوصول إليه لن يكون إلا ضربًا من الاجتهاد لا يخرج عن حيّز التخمين أو الافتراض، حتّى إنّ الجمعيّة اللغويّة في باريس قرّرت سنة 1878 منع تقديم أبحاث عن هذا الموضوع»(4). وقد اجتهد بعض الدارسين لتصنيف اللغات في بحث ما يسمّى اللغة الأمّ في كلّ فصيلة لغويّة؛ لذا رأى بعض الدارسين للغات الساميّة أنّ اللغة العربيّة هي أصل اللغات الساميّة لأسباب ذكروها(5)، ولكن لا يستطيع أحد الزعم بأنّ العربيّة أصل للغات العالم. والبحث في هذه القضية لا يفضي إلى نتيجة علميّة؛ لأنّ بحث أصل اللغات يمتدّ زمنيًّا إلى عصور ما قبل التاريخ التي لم تدوَّن فيها العلوم، وليس لدينا مصادر ماديّة يعتمد عليها في عصور ما قبل التاريخ ترشدنا إلى أصل اللغات. ولمناقشة الفكرة الثانية التي مفادها أنّ مصدر معرفة أصول الكلمات في مختلف اللغات هو ما دُوِّنَ في المعجمات العربيّة فإنّي أتساءل كيف لمعجمات خاصّة باللغة العربيّة أن تكون أصلًا لمفردات لغات أخرى؟ وكيف لمعجمات أُلِّف أقدمُها في القرن الثاني الهجريّ، وهو معجم العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت175ه) أن يُدوَّن فيه أصول كلمات أجنبيّة، وكلمات موغلة في القدم، ولم يكن من مصادر علماء العربيّة في جمع ألفاظ اللغة أقدم من الشعر العربيّ الجاهليّ الذي وصل إلينا، وهو يقدّر بمئة وخمسين سنة إلى مئتين قبل الإسلام كما يرى الجاحظ(6) ولمناقشة الفكرة الثالثة المتعلّقة بتأثيل كلمة (مكّة) فإنّه يلزمني أن أتتبّع خطوات عبد الحقّ فاضل في تأثيل كلمة (مكّة) التي انطلق فيها من نظريته في تأثيل الكلمات، التي أسماها علمَ الترسيس، وهو يبدأ بتأصيل كلمة (مكّة) من الصوت (بج بج بج بج بج بج) الذي يستعمل لإسكات الطفل عندما يبكي. وأشار إلى أنّ الفعل بجبج فصيح، ومعناه لاعبت الصبيّ، وسكّنته بالمناغاة والغناء. ثم انتقل إلى قول العرب: بخ بخ باختلاف صيغها من تشديد، وتخفيف، وتسكين، وتحريك، ومعناها هو التعجب والاستحسان والتعظيم والرضا. و(البخبخة) ناشئة من لفظ (البجبجة)؛ وذلك أنّ العرب كثيرًا ما يبدلون أصوات الحروف بعضها ببعض حتّى لو كانت متباعدة في مخارجها. هذا من ناحية اللفظ، أمّا من ناحية المعنى فالطفل سريع الرضا واللعب بعد إسكاته وسكونه، وبعد رضا الطفل فإنّه يمدح ويتعجّب منه. ثم إنّ هذه الكلمة تطوّرت في بعض لغات أواسط آسيا إذ ظهرت بصيغة (بكّ) لقبًا يطلق على الشريف النبيل، وهذا اللقب قد اشتهر أيام الدولة العثمانية، ومنها تسرّب إلى بقيّة الأقطار العربية بصورة (بيك وبيه)، وبعد ذلك تطوّرت كلمة (بكّ) إلى كلمة (بكّة) بالبابليّة، ومعناها الإله، وقد وردت بمعنى الإله في النصف الثاني من المركب المزجيّ (بعلبكّ)، ثمّ أطلق اسم (بكّة) على الكعبة، ثمّ على البلدة المحيطة بها، ثمّ نطقوها بالميم (مكّة)، وتبادل الميم والباء كثير في اللغة العربيّة حتّى أصبح قاعدة شبه مطّردة عند بعض القبائل(7) وفي تأثيل عبد الحقّ فاضل لكلمة (مكّة) وقوعٌ في بعض الأوهام التي من أهمّها: الأوّل: أنّه لم يستند فيما يقول إلى معجم تاريخيّ يُعنى بتتبّع تغيّر الألفاظ عبر الزمن. واللغة العربيّة ليس لها معجم تاريخيّ، فضلًا على أنّ يكون هناك معجم تاريخيّ للغات العالم مجتمعة، وكان يعتمد نظريّة تشابه الأصوات، ويعدّها أصلًا في التغيّر التاريخيّ لأصوات الكلمات. الثاني: أنّه لم يفد فيما ذهب إليه من آراء حول تأثيل لفظ (مكّة) من معطيات علم الآثار التي تُعنى بجانب منها بالنقوش المكتوبة التي تساعد الباحثين في اللغة على معرفة أصول بعض الألفاظ. الثالث: لم يُراعِ عبد الحقّ فاضل في تأثيله لكلمة (مكّة) أنّ للبحث في علم أصول الكلمات (Etymology) أدواته المعرفية الخاصّة التي نصّ عليها بعض الدارسين، مثل: سعة الاطّلاع، والمراس الشديد على تأصيل الألفاظ، والمعرفة شبه الموسوعيّة بتاريخ جميع اللغات المدروسة، وبتاريخ الناطقين بتلك اللغات، ومعرفة التعامل مع الوثائق القديمة التي تُعين على تتبّع أصول الكلمات، والحذر المنهجيّ من تبنّي تفسيرات شديدة الريبة لأصول بعض الكلمات. والدارسون في هذا الحقل اللغويّ يفضّلون ألّا يطرحوا أيّ تفسير يشوبه شيء من الغموض في شأن تأصيل الكلمات(8). وفي الختام رأينا أنّ هذه الأفكار لم يعد لها رصيد من البحث في اللسانيّات الحديثة؛ لأنّها تخالف المنهج العلميّ في دراسة الظواهر اللغويّة، وتدعو إلى سلوك التحيّز اللغويّ الذي قد يفتح بابًا للتعصّب اللغويّ، وبابًا لفكرة المفاضلة بين اللغات، وادّعاء كلّ قوم أنّ لغتهم القوميّة هي أفضل اللغات. ... ... ... الحواشي: (1) انظر فاضل، عبد الحقّ: تسمية مكّة ونشوء اللغة، مجلّة المورد، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق، المجلّد 5، العدد 4، 1397ه/ 1976م، ص19. (2) انظر فاضل، عبد الحقّ: تسمية مكّة ونشوء اللغة، ص19. (3) انظر فاضل، عبد الحقّ: تسمية مكّة ونشوء اللغة، ص20، ص21. (4) الراجحي، عبده: فقه اللغة في الكتب العربيّة، دار النهضة العربيّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1392ه/ 1972م، ص77. (5) انظر ظاظا، حسن: الساميّون ولغاتهم تعريف بالقرابات اللغويّة والحضاريّة عند العرب، دار القلم، دمشق، سوريّا، الطبعة الثانية، 1410ه/1990م، ص18-ص24. (6) انظر: الجاحظ، عمرو بن بحر: كتاب الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1416ه/ 1996م، ج1، ص74. (7) انظر: فاضل؛ عبد الحقّ، تسمية مكّة ونشوء اللغة، ص20، 21. (8) انظر: تراسك؛ ر. ل، لماذا تتغيّر اللغات؟، مراجعة: روبرت مكول ميلر، ترجمة: محمّد مازن جلال، إدارة النشر العلمي والمطابع في جامعة الملك سعود، الطبعة الأولى، 1434ه/ 2013م، ص79، 86. ** **