قرأت الدكتور حلمي خليل "دراسات في اللغة والمعاجم"* مستفيداً، وقد أفدت منه كثيراً، لذلك فإنني اعتزمت على أن أعرّفه الى قراء "الحياة". أقول أعرّفه لأن مراجعته أمر عسير، كما يتبين للقارىء. والكتاب قسمان: يشمل القسم الأول ص 17 - 349 البحوث التالية: علم الأصوات عند الخليل" واللغة والطفل" وعربية الأندلس" وارهاصات في علم اللغة الاجتماعي عند الجاحظ" واللغة والثقافة. أما القسم الثاني ص 351 - 505 ففيه البحوث التالية: علم المعاجم عند أحمد فارس الشدياق" والمعرب والدخيل في المعجم اللغوي التاريخي" وعلم المعاجم عند أحمد بن فارس بين النظر والتطبيق. والبحثان الأولان من القسم الأول يتناولان أموراً في صميم علم اللغة، وهو حقل بعيد عني، لذلك فلن اتعرض لهما. 1 - لذلك فإنني أبدأ بالفصل المعنون "عربية الأندلس" ص 197-256. يؤكد الدكتور حلمي على أمر مهم بالنسبة للغة الأندلس عشية الفتح الإسلامي للبلاد وهو ان البلاد عرفت، نتيجة لتاريخها الطويل وهجرات الشعوب اليها، لغتين: الأولى اللاتينية التي كانت لغة الثقافة والعلوم والدين، والثانية اللغة اللطينية لعامة القوم. ويتحدث بكثير من التفصيل عن الفتح الإسلامي والعناصر التي دخلت البلاد بعد ذلك، لا في حملة أو اثنتين، ولكن خلال قرون كان فيها يدخل البلاد فئة بعد فئة، وكل منها تحمل معها لغتها ولهجتها، وكانت العناصر تختلط واللغات تمتزج والإسلام ينتشر ومعه تقلب للعربية، بحيث انتهى الأمر بأن تكون في البلاد لغة عربية فصيحة هي لغة الإسلام والدواوين والعلم والثقافة والأدب وما كان أغناها" ولغة عربية متكلمة هي لغة العوام، وهذا أمر حدث للغة العربية في كل صقع انتشرت فيه بعد الفتوح العربية. ويستشهد على اللغة العامية بنماذج من الموشح. الى جانب هذه العربية بشكليها ظلت هناك، ولو الى درجة محدودة، لغة لاتينية عامية. ويتحدث بعد ذلك حديثاً طويلاً ص 231-251 عن الملامح اللغوية لعربية الأندلس. والبحث كله مفيد وفيه الكثير الجديد. 2 - "ارهاصات في علم اللغة الاجتماعي عند الجاحظ" ص 257-327 ويدور البحث أصلاً في أفكار الجاحظ حول علاقة اللغة بالمجتمع. ويرى المؤلف أن هذه الأفكار "تشكل إدراكاً واضحاً مباشراً للبعد الاجتماعي للغة وعلاقة اللغة بالمجتمع". فهناك درس للتغيير اللغوي 280 ولغات طبقات الناس 285 واللكنات الأعجمية 297. وهو بعد أن يشبع الموضوع درساً يقدم لنا ألفاظاً جاحظية للدلالة على ما قام به هذا الرجل 316-324. ويذكرنا، خلال بحثه، ان الجاحظ، ولو أنه لم يكن وحيداً، اهتم باللغة من حيث انها ظاهرة اجتماعية ذات تنوعات مرتبطة بالذين يستعملونها. ويؤكد ان "دراسة الجاحظ تضعه في مصاف الرواد من العلماء في علم اللغة الاجتماعي" وهو الموضوع الذي مر على الدكتور حلمي سنوات وهو يعالجه. 3 - "اللغة والثقافة العربية" 329-349. بعد أن يعرض المؤلف لفكرة الثقافة بالنسبة لنا، نحن العرب، يتوقف عند أمرين، متأثراً فيهما بابن حنّي ت 392ه، الأول طبيعة البنية اللغوية، والثاني ارتباط هذه البنية اللغوية بوظيفتها الحيوية في المجتمع. وبعد توضيح هاتين النقطتين من حيث تطورهما التاريخي وارتباط الثقافة العربية باللغة العربية يؤكد على أن الأمرين يسيران، ويجب أن يستمرا كذلك، جنباً الى جنب. فاللغة، في رأينا، لا تنمو إلا إذا كان القوم المتكلمون بها مثقفين ينتجون آراء جديدة كي تغتني اللغة بالتعبير عنها. 4 - "علم المعاجم عند أحمد فارس الشدياق" ص 353-410. احسب أن الكثيرين ممن عانوا الكتابة بالعربية يشعرون بكثير من المرارة لأنهم لا يجدون بين أيديهم المعاجم التي توضح لهم معاني الكلمات بشكل يمكنهم من فهمهما واستعمالها. وهذا البحث، مثل البحوث التالية في القسم الثاني من الكتاب، يعرض المشكلة من زاوية أحمد فارس الشدياق الذي انتقد القاموس، وجرب عملاً قاموسياً. وأود أن أنقل عبارة للمؤلف فيها تفسير لبعض ما عانى الشدياق، وما نعاني نحن، قال "وهذه الدعوة من الشدياق الى اعادة النظر في المعاجم العربية مادة وترتيباً دعوة لها ما يبررها في عصره - وما زالت حتى يومنا هذا" ص 356. ويعالج المؤلف الموضوع في أطر ثلاثة هي: دراسة المعنى المعجمي عند الشدياق 363. والشدياق وفن صناعة المعاجم 377 والشدياق وتنمية المادة المعجمية 395. وكل من هذه القضايا مدروسة بعمق ودقة. ويخلص المؤلف الى أن الشدياق هو من علماء العربية القلائل الذين اهتموا بدراسة المعاجم العربية، وكان درسه لها علمياً، كما ان معجمه المسمى "سر الليال" "هو من المحاولات المبكرة لوضع معجم عربي حديث من حيث الشرح والترتيب". 5 - "المعجم اللغوي التاريخي" ص 411-460 إلا أنه يتناول الموضوع من ناحية خاصة هي "المعرب والدخيل" في هذا المعجم. اللغة العربية وأصحابها - الناطقون بها والكتاب الذين يستعملونها - لا يجدون المعجم الصالح للاستعمال" أما المعجم التاريخي فهو بعد أمل في عالم الغيب. هذا الكلام لي، ولست أشك في أن الكثيرين يودون ان يروا شيئاً مثل هذا في حياتهم. يطالعنا المؤلف في مفتتح بحثه بهذه العبارة: "الحقيقة أننا نحمل الحركة المعجمية القديمة أو حتى في مطلع عصر النهضة الحديثة أكثر مما تحتمل إذا القينا عليها التبعة في عدم وضع وتأليف المعجم اللغوي التاريخي للغة العربية حتى الآن، ذلك لأن فكرة هذا المعجم فضلاً عن أصول بنائه وطبيعة المادة اللغوية فيه، لم تكن الا محصلة للدراسات اللغوية التاريخية المقارنة التي بدأت في أوروبا مع نهاية القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر وما زالت مستمرة حتى اليوم". ص 415 وهو قول فيه كل الصحة. على أن الانصاف يقضي القول بأن هناك لمحات تدل على وجود هذا الحس التاريخي في وضع بعض المعاجم وخاصة في مادتها اللغوية. ويعطينا الدكتور حلمي نماذج على ذلك عند الخليل بن أحمد ت 174ه وابن حزم الأندلسي ت 456ه وأبي حيان الأندلسي ت 754ه وسواهم من غير العرب ص 415. وبعد شرح لمعنى المعجم التاريخي يخلص الى القول: "ومعنى هذا كله فإن المعجم التاريخي المنشود للغة العربية سيكون معجماً تأصيلياً وتاريخياً ومقارناً في آن واحد، وهو بهذا التصور يحتاج الى درجة عالية من التخصص في علوم اللغة وفي اللغات السامية واللغات غير السامية التي اتصلت بها اللغة العربية عبر مراحل حياتها حتى الآن، يضاف الى ذلك حصيلة من النصوص الأدبية واللغوية والدينية والعلمية منذ أقدم عصور العربية حتى اليوم" ص 422. وهي، كما أرى ويرى معي القراء، مهمة صعبة. ولكن علينا أن نتأكد من شيء في غاية الأهمية وهو أننا لا يمكن أن نحافظ على كياننا الثقافي بوجه خاص ان لم نمكن للغة العربية - وهي ضميرنا وحصننا وخط دفاعنا - من أن تسير قدماً. فالمعجم ضرورة أولى والمعجم التاريخي حاجة ماسة، والأمل دائم قائم. والأستاذ المؤلف يتحدث عن المصطلحات المتعلقة بالألفاظ في مواضيع خمسة هي: المحدَث والمبتدَع والمولد والدخيل والمعرّب ويعرض لها ص 431-437 ثم ينتقل بنا الى مراحل اللغة العربية ص 439-440 ويقدم نماذج وأمثلة ويبين طريقة ايراد الكلمات تحت المصطلحات التي تكلم عنها. وكأنه، بعد أن وضع أمامنا مشكلات المعجم اللغوي التاريخي ص 440-454، يعود بنا، أو معنا، الى الأمل فيقول "وفي كل الخطوات السابقة لا بد لنا من الاستعانة بالنصوص والشواهد الشعرية والنثرية وغيرها وبالتاريخ الحضاري والتطور الفكري والأدبي والاجتماعي للغة العربية واللغات الأخرى التي اقترضت منها اللغة العربية. وبذلك يصبح المعجم اللغوي التاريخي صورة صادقة للغة العربية وخاصة تيار المعرب والدخيل والمولد والمحدث داخل الثورة اللفظية لهذه اللغة" ص 454. 6 - "علم المعاجم عند أحمد بن فارس بين النظر والتطبيق" ص 461 - 505 يحاول المؤلف، كما يقول هو نفسه، أن يؤصل الجانبين النظري والتطبيقي في التراث المعجمي العربي من خلال دراسة أعمال أحمد بن فارس ت 395ه في معجميه "مجمل اللغة" و"مقاييس اللغة" وكتابه "الصاحبي" المحتوي على دراسات لغوية أخرى. ويكشف لنا الدكتور حلمي عن تراث عربي جيد لعل قلة تنبهوا الى بعضه، لكنهم كانوا من علماء المعرفة اللغوية العربية، لذلك لم يكتشفوا أبعاد القضية التي تتطلب معرفة لغوية اجتماعية عميقة هي من ميزات المؤلف الكريم. ورغبة في توضيح الأسس التي يعتمدها لبحثه يقدم لنا "نظرية المعجم وعلم المعاجم" في الدراسات اللغوية المعاصرة، وبذلك يضع أمامنا المقياس الذي يعتمده في تقدير هذا العالم الذي عاش في القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر للميلاد، وهو القرن الذي تفجر فيه الفكر العربي على نحو لم يعرفه العرب فيما بعد. ويمكن اجمال هذه المقدمة بالقول أن المعجم هو جزء من نظام لغة ما، والوحدات المعجمية هي صورة مصغرة من الجملة، وإذا كانت نظرية المعجم هي نظرية المفردات فإن ذلك يجعل منه بنية أكثر عمقاً واتساعاً. عني ابن فارس بفكرة الأصول المعجمية حيث يلتقي مع ابن جني في فكرة وضع الأصول مع اختلاف في التطبيق. وبعد توضيح فني دقيق، يصعب تلخيصه لكن تحلو قراءته، يقول "وصفوة القول أن معجمُ المقاييس، فريد بين المعاجم العربية القديمة والحديثة وخاصة من حيث المادة اللغوية وطريقة شرح المعنى المعجمي... وهي نظرة لم يسبقه اليها أحد من المعجميين القدماء، كما لم يلتفت اليها أحد ممن جاء بعده الا في العصر الحديث عندما أفاد مجمع اللغة العربية في مصر من هذه الفكرة في شرح المعنى المعجمي لكل جذر من جذور المعجم الكبير، بل نقل عن ابن فارس الكثير مما قاله" ص 502. يختم المؤلف كتابه بمعجم للمصطلحات الأجنبية ص 507 - 518. كما أنه يلحق بكل بحث مصادره ومراجعه العربية والأجنبية. أحسب ان كل ما فعلته بالنسبة لهذا الكتاب هو أنني وضعت له خريطة قد تعين القارىء، أو لعلي نجحت، كما أملت، بالتعريف به. بحوث هذا الكتاب هي نتيجة معرفة عميقة، وتنظيم دقيق، وأسلوب الكتاب واضح مشرق. فلا عذر لمن تهمه مثل هذه الموضوعات أن لا يقرأه. وأرجو أن يزداد عدد الذين تهمهم مثل هذه الموضوعات خصوصاً بين الذين لا يرون من لغتنا العربية سوى صرفها ونحوها. فاللغة أثمن من ذلك وأمتع وهي رابطة الثقافة والمعبرة عنها! * عن دار النهضة العربية - بيروت 998