الرسم والموسيقى لغتان متحررتان من قيد الأبجدية. كتبتُ هذه العبارة قبل سنوات عدة. والحق إني حاولت عبثًا أن أتذكر حين كتبتها أكنت أستمع لموسيقى أم أتأمل لوحة؟ وأيًا كان من الأمر، فالاستماع لمعزوفات موسيقية دون كلمات أغنية، وتأمل اللوح، كلاهما طقس أقضيه ساعات طوالاً. كتبت هذه العبارة بعد أن لمست الموسيقى ورسمت اللوحة مشاعر غائرة بأوسط نفسي، تمددتْ خارج أطراف اللغة، فما وجدتُ من قوالب الأبجدية ما من شأنه أن تنسكب به، وكانت اللغة كلما تمددت لتغطية أطراف الشعور الذي يتجاوزها تمزعت! أما الموسيقى والرسم فلغة صامتة تُعَاش لا تُقَال. ولما كان الأمر على ذلك رأيته من الفائدة والتشويق في آن أن أجرب فتح الأفق في قراءة فلسفة اللوحة التي تسربت من بلاغة المعنى في عقل الرسام، بيد أنها بلاغة تجسدت في لغة الرسم الصامتة، لا الأبجدية الناطقة. واخترت اللوحة المرفقة، التي عثرت عليها في 2016، ولازمني تأملها منذ ذلك إلى الآن، لكن مع شديد الأسف لا أعرف اللوحة تعود لمن، متأملة أن يفيدني بذلك من يعرف، فهنا أوثق وقفة اعتراف لحقوق الرسام. هذه اللوحة المتمازجة أجزاؤها في جزء واحد حد أني لا أستطيع التحديد من أين المبتدى فيها ومن أين المنتهى! امتداد أبيض من ثوب هذه المرأة يعوم في الفضاء، وكلما ابتعد عنها تمازج لونه في لون الفضاء الذي وصل إليه؛ أهي روحنا حين تفارق أجسادنا يتغير لونها الذي تلون بنا في حياتنا إلى لوننا في حياتنا الأخرى بعد الموت؟ امتداد يدي المرأة إلى الوراء يشي بخفة جسدها الذي صار طائرًا، وضرب بجاذبية نيوتن عرض الجهات؛ هل لأن هذا البياض المتسرب من جسدها هو روحها المثقّلة بأتراح الحياة وما إن فارقت جسدها إلا وصار كخفة الريش؟ تجسد اللوحة أبلغ مراتب الانسحاب، إن كان موتًا، أم حياة على قيد الممات، بلغ الانسحاب في هذه المرأة مبلغه حد أنه طمس وجهها من اللوحة، فليس لها وجه تتجسد به هويتها، إنها منسحبة من نفسها، منسحبة إلى اللامكان، حيث الفضاء العائم، لا جهات به، لا أبعاد، لا محيط، كتلة من فضاء معدوم تتمازج في الألوان، تسبح ببعضها البعض، تتسرب الروح امتدادًا من جسدها سابحة في الفضاء. يتخلل العدم شعرها فجعله متماوجًا بلا كتلة فضائية حية تمسكه؛ فالمرأة حين ترفع رأسها يتماسك شعرها الذي كان متماوجًا تحت الماء، لكن تماوج شعر هذه المرأة في اللوحة يشي بديمومة غرقها في الفضاء المعدوم. روح تتسرب امتدادًا من جسد، انسحاب يمتد من انسحاب في عدمية فضاء أبيض انعدم به الوقت! الانعدام؛ إنه النعيم في هذه اللوحة الذي شدت لأجله المرأة رحال الانسحاب. إن فلسفة هذه اللوحة التي قدمتها بقراءة تأملية منوطة بفلسفتي الخاصة، لا ريب أن قراءتها ستختلف من تأمل شخص عن الآخر، وأيًا يكن من الأمر فإن فلسفة اللوحة الأصل تعود مرجعيتها إلى فلسفة الرسام، مثلما معنى البيت الأصل تعود مرجعيته إلى الشاعر، وتتعدد تأويلاته من ناقد لآخر. هذه القراءات التأملية هي قراءات فلسفية في بلاغة المعنى عند الرسام الذي جسده بالصورة؛ وبذلك تكون مجالاً خلاقًا لتقديم دراسات بلاغية في فلسفة اللوح، متى ما تم فهم أن لغة الرسم صامتة ليست كلغة الأبجدية؛ وبالتالي قراءة اللوح بلاغيًّا تأمليًّا يكون قائمًا على هذا الأساس. ومن هنا أدعو طلبة الدراسات العليا في تخصص البلاغة للالتفات لفن الرسم في أبحاث رسائلهم العلمية، إن كان في جمع رسومات لرسام واحد، أو مجموعة رسامين من قبيل دراسة بلاغية مقارنة بين فلسفة لوحهم. ** ** - سراب الصبيح