يثير الفنان والباحث الناقد أسعد عرابي في لوحاته وكتاباته مشكلات قديمة متجددة حول هوية الفنان والانسان معاً، وعلاقة هذه الهوية بذاكرة المكان، تراثاً وتاريخاً، بعيداً عن الخارطات السياسية وانزياحاتها، أو الايديولوجيات المتحولة، وأشكال التعسف التي تمتد بجذورها الى الماضي، عالمياً ومحلياً. ويمضي أسعد عرابي في استلهام الروح الشرقية، حدساً، معانداً ما فرضه الغربيون من أفكار جاهزة وتقاليد مؤسلبة في الفن والحياة، ولم تكن لهجرة أسعد عرابي من دمشق الى باريس، قبل ربع قرن، أية آثار في تغيير رؤيته وهواجسه الأصيلة. أصدر عرابي كتاباً نقدياً عنوانه: "وجوه الحداثة في اللوحة العربية" منشورات دائرة الثقافة والاعلام - الشارقة 1999 وضمّنه أبحاثه النظرية والنقدية. وفيه تتجلى تجربته كناقد ورسام على حدّ سواء، إذ أن العمل النقدي لديه لا ينفصل عن الرسم. وإذا كان عرابي يلتقي، أو يفترق، مع فاتح المدرس، أو غيره من رواد الجيل الثاني في الفن السوري الحديث، فهو يحتفظ لنفسه بحق الفهم، والحدث الخاص، ويدخل في التفاصيل الدقيقة التي تميزه عن غيره. والمشكلة في الحوار مع أسعد عرابي هي الانسيابية في الحديث عن تواريخ قديمة، حية، كأنه عاشها وعرفها جيداً، ولكنها حية بملامحها وطقوسها وحدسها المؤثر، كما هو واضح في اجاباته عن الأسئلة المختلفة: في لوحاتك التي تعرض بانتظام في العواصم المختلفة منذ أوائل السبعينات، في شكل متواز مع انتشار كتاباتك في علم الجمال وعلوم الفن والنقد الفني، يمكن أن نلاحظ بسهولة اهتماماً خاصاً بالفنون السورية والرافدية القديمة، في ما يشبه الاستلهام أو الاستحضار لذاكرة المكان، فماذا تعني لك هذه العلاقة الخاصة بهذا المكان وفنونه؟ - يبدو لي أن تجربتي لا تحتكر التمسك بذاكرة المكان، طالما أن جزءاً كبيراً من وجدانية اللوحة يرتبط بأرحام الطفولة وأوشحة المكان الأول. ما أحب أن أذكره في هذا المجال أن ما يشكل وحدة التجربة الفنية ليس الأسلبة والموضوعات، بل الحساسية التشكيلية العامة، فأنا لا أتقصد استحضار أية ذاكرة، ولكن المنهج التقني الذي اتبعته منذ البداية يسمح للمادة باقتراح ملامح اللوحة، فالمادة الجدارية تقودني بقوة التداعي الحدسي الى قراءة المرحلة التالية ثم مراجعتها، والهدم والبناء حتى تصل اللوحة الى ما يوحي بارتباطها بذاكرة المكان، من دون حساب لحدود الزمن. من المألوف أن تدور الأساطير المختلفة حول الصراع بين الأضاد في الحياة، وهذا الصراع قديم متجدد، مستمر. وتصل المبالغة في صياغة الأساطير الى حدود الخوارق والمعجزات، فما هو انعكاس هذه الأساطير على الموروث الشعوري الجمعي، وعلى التراث الشخصي للفنان؟ - الأسطورة مشروطة أساساً بمفاهيم صراع الأضداد، أو الصراع بين الثنائيات في الفكر الانساني، كالخير والشر، والأسود والأبيض، وقد جسدت الألياذة والأوديسه الأسطورة في الفكر اليوناني، ولو أخذنا، على سبيل المثال، المارد ذا العين الواحدة فإننا نلاحظ اللاشعور الجمعي الحضاري بشكل عام يخزن صوراً ذات صبغة صراعية، ولكنها صور على رغم ما تملك من منطق تخيلي متماسك فإنها تبدو خارقة متجاوزة لنواظم الوجود والواقع، وهذا قريب من "علاء الدين" في حكايات ألف ليلة وليلة، حيث نلاحظ تحولاً من الدلالة المغروسة في عادات الواقع واليومي والوقائعي الى منطق تخيلي، تراكمي، يملك قوته السحرية، متناسخاً عبر الأجيال، وهي آلية تقترب جداً من التحول من وعاء الواقع الى الفراغ التشكيلي النوعي. ارتبطت الأسطورة برموز واشارات متحولة، أو مختلفة من مكان الى آخر، بحيث نجد أن لكل حضارة قاموسها الخاص للتعامل مع الرموز والاشارات التي ترتبط بالأساطير وتدخل في نسيج الصناعة الفنية لكل شعب، فما هي آلية تشكل تلك الأساطير؟ - ان ملاحقة سياق تطور مفهوم الرمز الغرافيكي السحري، أو الاشارة السحرية، في شتى الصناعات الفنية، تثبت مجدداً آلية تشكل الأسطورة، التي تشبه خيانة الفن التشكيلي لنواظم الواقع المألوف. وبمعنى آخر، نجد أن هناك هواجس سحرية وتشكيلية تتحالف لتجعل من الدلالات الاتفاقية أبجدية شطحية تملك كل خصائص النشاط الابداعي التشكيلي. مع الزمن تراكمت أساطير مختلفة، وتمازجت مع أساطير ورموز وافدة من أماكن أخرى، وتغيرت أساليب التعامل مع هذه الأساطير والرموز، وانعكاساتها على الثقافة والفنون في كل بيئة اسطورية، فهل نستطيع تحديد درجة الاختلاف بين الماضي البعيد والحاضر، في التعامل مع الأساطير والرموز؟! - ان الانسان الأول - ومنه انسان الكهوف - كان يولّد اشاراته السحرية من تواصله مع عناصر الطبيعة المباشرة، فالشكل الأولي للسهم يمثل الخصوبة، والشكل المتصالب هو البرق، والشكل المتموج هو الموج، أما الشكل الدائري فهو الشمس والقمر.. أما اليوم فهناك الاجترار الذي فقد البعد السحري للأبجديات خصوصاً أن هذه الابجديات كانت مصدراً للأبجديات الأولى، كالأبجدية المسمارية التي ولدت في أوروك بحدود ثلاثة آلاف واربعمئة عام قبل الميلاد، وتفرعت تلك الكتابة الى لغات وكتابات وأداة توصيل آلية، لا يكاد الذين يستخدمونها يفكرون بأصولها السحرية. شهدت مناطق حوض المتوسط وما بين الرافدين وأطراف الخليج حضارات متصلة - منفصلة، في فترات زمنية متلاحقة، فهل نستطيع أن نحدد ملامح هذه الحضارات، وانعكاساتها على الفنون، ومدى اتصالها وانفصالها وما في ذلك من تأثر وتأثير؟ - يمكن أن نتساءل: ما هي خارطات هذه الأساطير، طالما أنها خارطات مرتبطة بالخصائص الجمالية، ولا تتطابق غالباً مع الخارطات السياسية، لحسن الحظ؟ ثم ما هي خصائص هذه الأساطير لتلك الحضارات المتماوجة بين فكي البحر المتوسط والخليج؟ ولا يهمنا ما تحمله التسميات من التباسات بريئة أو غير بريئة، بل يهمنا ما يساعدنا على متابعة هذه الخارطات فعلياً. انها تدعى الحضارات السورية الرافدية، وتدعى أحياناً حضارات الهلال الخصيب، الذي استكمل امتداده في حضارة دلمون في البحرين وفيلكا في الكويت وامتد الى سلطنة عُمان، ثم الحضارة النبطية. وهذا الوعاء الحضاري المتماوج يشبه وعاء الماء الذي تسقط فيه قطرات من الحبر الملون، تشكل حولها دوائر، فكل حضارة من هذه الحضارات لها خصائص واضحة في مركز نقطة الحبر، ثم تتلاشى دوائرها المحيطية الأكبر وتتمازج مع جاراتها، حتى يتحول الوعاء الحضاري السوري الرافدي، أو الهلال الخصيبي الى قزحيات اسلوبية متوحدة، ومتنوعة، في آن واحد. في القرنين الأخيرين، بشكل خاص، شهدت الحركات الفنية في العالم دعوات متعددة ومختلفة الى التجديد، وطرحت بعض هذه الدعوات قطع الصلة مع الماضي، والتركيز على موجودات الحاضر اليومي، فكيف تفهم معنى التجديد من خلال تجربتك الخاصة؟ - تكاد دعوات التجديد أن تفقد معنى التجديد، لأنها تحولت الى آلية صناعية اعلامية، وتاريخ الفن لم يتقدم في أي مرحلة من مراحله من خلال الارادة المسبقة، لكن هناك حقيقة يلتزمها كل مبدع، وترتبط باتصاله بنواظم الكون المتجددة دائماً، فالتطور في تاريخ الفن تمّ كما يتم تطور شكل الأمواج والأثير، أو التحولات الوجدانية التي تعكسها اللوحة، فكما أن اللحظة الوجدانية لا تتماثل مع ما سبقها أو ما لحقها، فإن مبدأ التماثل مرفوض سلفاً، لأنه ينفصل في هذه الحال عن المُعاش واليومي المتحول أبداً. لنتذكر مثالاً بسيطاً على هذه الصيرورة: إذا كان عصر الانطباعيين قد صور العالم كفردوس أرضي فلا يمكننا نحن اليوم أن نقبل بنشوة الحنين الى هذا الفردوس المفقود، حيث قلما نجد نهراً غير ملوث، وهذا يعني أن الحداثة والمعاصرة والتقدم التقني وكل ما توحي به هذه الدعوات من تقدم مسبق الصنع يتناقض مع الشهادة الحدسية للوحة، ازاء خصائص الزمان والمكان، فاللوحة مختبر عضوي لا تحتاج الى تنظير تقدمي، وإلا فإنها ستقع في الرجعية الأصولية مجدداً. قد تتحول العلاقة المتجددة مع المكان- الماضي الى ما يشبه الحدس في آلية العمل الابداعي - اللوحة مثلاً، فما هي أهمية هذا الحدس وانعكاساته على العمل الفني؟ - الحدث هو جنين الإخصاب في العمل الفني، وتمتد فترة الحمل فيه أكثر بكثير من وقت انجاز اللوحة، أو الولادة الابداعية، وتتقدم طقوس الأداء في مغامرة فنية نوعية لا علاقة لها بالتقدم الكمّي التقني، ويرتبط مسار هذا التقدم بآلية تداعي الصور السحرية وتزاحم تأويلاتها في حضن اللوحة، ويتمرد اللون على رسم الخط، والخط على رسم المساحة، ويعوم الاثنان في حيّز فلكي مطلق، يؤكد أن التحول من الأسطورة الى نواظم اللوحة يشابه الانتقال من ظاهر المرئي الى الحقيقة الباطنة في التصوير. تركت الحضارات الرافدية السورية - أو الهلال خصيبية - آثاراً غنية مؤتلفة أو مختلفة، وعلى نقيض الحضارة الاغريقية التي نعرف فيها أسماء الشعراء والكتاب والنحاتين، غابت في الحضارات السورية الرافدية أسماء المبدعين في النحت والعمارة والتصوير، فما هو السر في هذا الغياب؟ - هناك سببان واضحان، الأول هو الفكر الاستشراقي الذي حاول أن يجعل من الشرق ذوباناً للفرد في الجماعة، ويجعل من الغرب فلسفة انسانية، تتمركز فيها كل الحقائق الوجودية حول الانسان، وفي هذا التقسيم تعسف كبير، رسّخه السبب الثاني، وهو السرقة الكبرى، التي لا يتصورها العقل، للشواهد المادية الذاكراتية لحضارات المنطقة، والتي يقابلها تمجيد عنصري يصل الى حد الهوس لكل ما هو روماني ويوناني، وكمثال على ذلك شهدت في المغرب، بأم عيني، كيف دمرت آثار صوفية، من زوايا وحجرات خلوة، ومقابر مدهشة، من أجل استخراج عدد من الأعمدة الرومانية، وهذا التقسيم لا يخلو من الحس الصراعي، بدليل أننا نعرف أسماء غالب شعراء الجاهلية الذين عاشوا في العصر نفسه الذي عاش فيه نجوم الثقافتين اليونانية والرومانية. هناك امتداد لهذا التقسيم ينسحب على عصر النهضة الأوروبية وما يوازيه زمنياً في الشرق العربي والاسلامي، فهل تغيرت صورة التعسف أو التعصب الغربي؟ - إذا انتقلنا الى عصر النهضة وجدنا التعسف الثقافي نفسه، فنحن نعرف دافنشي ولا نعرف كثيراً عن الجزري الذي أسس لدافنشي كل الهندسة الميكانيكية الاغريقية، ونحن نمجّد رفائيل وننسى أنه عاصر مصوراً عظيماً في الشرق مثل بهزاد، ومعمارياً فذّاً مثل سنان باشا، ورساماً للمنمنمات بعظمة الامبراطور المغولي علي أكبر خان. وإذا كنّا شموليين فعلينا، على الأقل، أن نبتعد عن اجترار تعصب الآخرين، وعن ممارسة عادة التدمير الذاتي للذاكرة. بدأ الاستشراق الغربي فعلياً بزعامة المفكر الفرنسي ارنست رينان، الذي أكد أن الشعوب الشرقية متخلفة بسبب عدم اعتمادها على النطق، ومع أنه استثنى اليونان من هذا التعميم الا أنه أضاف الى الشعوب الشرقية الاسبان والايطاليين الجنوبيين، فكيف نفسر هذا التقسيم؟ - أنا أقول أكثر من ذلك، لأن رينان قسّم الحضارات بطريقة عنصرية عرقية، فاعتبر الجنس السامي في حال متدنية من الابداع، مقارنة مع الجنس الآري الذي يمر من الهند الى أوروبا عبر بلاد فارس وعيلام، واستطيع أن أذكر مثالاً رمزياً على تعسف كل هذه الاتجاهات جملة وتفصيلاً، من دون الدخول في المتاهة، أو الوقوع في فخ التعصب المضاد للتعصب: إن علاقة الاغريق بالفكر العربي والاسلامي تسبق، تاريخياً، علاقة الاغريق بالغرب، لأنها تعتمد على أمزجة حضارية متناهية التعقيد والتداخل، كما أن الترجمة العربية للفلسفة اليونانية أضافت اليها تأويلاً خاصاً، انكشف بعد أربعة قرون عندما أعاد الأوروبيون ترجمة الفكر اليوناني مباشرة الى اللغة اللاتينية، ومن خلال هذا المثال يمكننا أن نقترب من الحقيقة، فلو أخذنا أفلاطون كنجم للفلسفة اليونانية، سنجد أن نجوميته عندنا أكبر من نجوميته في أوروبا، لدرجة أن بعض الفلاسفة الأوروبيين أصيبوا بالدهشة من اهتمام العرب بأفلاطون، منذ أفلوطين ومدرسة الاسكندرية قبل الاسلام، وهذا يعني أن الغربيين لو ترجموا أفلاطون والتراث اليوناني مباشرة قبل العرب، لما اكترثوا بفكر افلاطون، أما تهمة غياب المنطق عن الشرق فيمكن الرد عليها بالقول: إن ابن رشد هو أهم شارحي أرسطو، وهذا يكفي.