ذات زمن تَزاحَمت فيه الأفكار النهضوية العربية خرج لنا الإمام محمد عبده - بحسب محمد الجابري في كتابه المشروع النهضوي العربي- بقاعدة تُلخِّص مفهومه للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وصاغها في عبارة تقول: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل». قاعدة محمد عبده هذه لها حدّان؛ الأول (الاستبداد) وهو ما يمارسه الحاكم - اضطرارًا- لبسط سيادة النظام، ولإقرار سياسة الحُكم، وهذا الاستبداد لا يغدو مقبولاً ما لم يقترن بالحد الأخير وهو (العدل) الذي هو أساس المُلك والحُكمِ، الذي يقتضي نزول الجميع (حاكمًا ومحكومًا) على أحكام الشرع أو الدستور المرتضَى، وبهذا يُعلم أنه لا يمكن أن يُقيم الاستبدادُ -وحده- دولة ما لم يقترن بالعدل، ولا يمكن أن يأخذ العدل -وحده- مجراه ما لم يُمهّد له باستبداد عادل. اللافت للنظر في قاعدة محمد عبده أنه اختص (الشرقَ)، ومقصدُه بالشرقِ (العربُ) الذين يأتون في مقابل الغرب الذي قطع أشواطًا بعيدة في الأخذ بأسباب الحضارة والرقي خلاف العرب الذين توجد بينهم اليوم كيانات تسودها الاضطرابات، ويتفشى فيها الجهل، وتنتشر فيها العصبيات والقبَليات، وثقافة الثأر، والتكتلات الطائفية التي تتنافي مع الخط الذي يسير عليه العالم اليوم الذي يُعلي من قيم الوعي، ويستمسك بالدولة المدنية الحديثة، ويأخذ بأسباب التحضر. ويأتي اليمن (بشطريه) على رأس قائمة الكيانات العربية التي عصفت بها النزاعات الداخلية، وسادت فيها ثقافة الثأر والتحزب والطائفية، وهذه الحالة تزداد نارها اشتعالاً كلما اتجهنا شمال اليمن وتضعف كلما اتجهنا جنوبه. ومع هذا فاليمن مهيأ ليتحول إلى دولة مدنية حديثة؛ فلديه قامات فكرية بارزة، وطاقات بشرية ماهرة ومتوثبة، ويحتضن تاريخًا ثريًا، وعلى ثراه شواهد الحضارات الغابرة، ولديه معالم سياحية وافرة في الجبال الشاهقة والجزر المتناثرة، وتنوع تضاريسي فريد، ويُشرف على أهم مضيق يصل بين الشرق والغرب، ولديه ثروات طبيعية تتمثل في البترول - وإن كان بكميات محدودة، لكنها ستكون قابلة للزيادة حال استقراره- ولديه مصادر اقتصادية أخرى كالسياحة وإنتاج البن، والفواكه، وتحويلات أبنائه في الخارج. وعند مقارنة اليمن ببعض الدول العربية من حيث تعدد مصادر الاقتصاد نجده يتقدم على بعضها، ومع هذا يعيش وضعًا مترديًا (أمنيًا واقتصاديًا وتعليميًا) مقارنة بها. ما الذي ينقص اليمن إذن؟ ينقصه وبكل جلاء (المستبد العادل) الذيذكره محمد عبده في قاعدته؛ فلو أن اليمن وُفِّقَ بحاكم ذي قوة وهيبة ونفوذ، متوجًا بالعدل والحرص على الرعية، ينظر لمصلحة اليمن أولاً، وليس همه (الرقص على رؤوس الثعابين)، وليست غايته ضرب مكونات الشعب وأحزابه بعضها ببعض، وإشغال القبائل بثأراتها وتاريخها، وليس شغله الشاغل إحياء ذكرى الثورة على حساب مقدرات الشعب، وليس همه الانحياز - مكيدة بجيرانه- لدول ليست في محيطه الإقليمي، وليست تمد له ولشعبه يدًا إلا لغايات خبيثة، لو وُفِّق اليمن في ذلك، فحتما سنرى يمنًا (حديثًا سعيدًا) غنيًا بشعبه وقيادته ومقدراته، يمنًا يشق طريقه للرقي والتقدم بثبات، يمنًا لا مكان فيه للشجرة الخبيثة التي أهدرت المال وذهبت بالعقول والأوقات، يمنًا لا مكان فيه للعقلية القَبَلية القائمة على الثأرات والنزاعات حتى غدت كل قبيلة بمنزلة دولة قائمة بذاتها، يمنًا يحل فيه القلم والكتاب والأجهزه الذكية محل السلاح الملازم حتى للرّضّع، يمنًا ليس فيه مكان للطائفية التي مزقته، ولا للأحزاب فيه وجود إلا ما كان منها تحت سيادة الوطن وأنظمته، يمنًا ليس فيه انتماء وولاء للخارج وإنما ولاؤه لليمن واليمن فقط، يمنًا شامخة فيه صروح العلم والمعرفة، يمنًا يتسابق أبناؤه في دروب الإنجاز والوعي والتحضر والثقافة، عندها وعندها فقط سيلوي اليمن إليه الأعناق، ولا أظن ذلك يتأتَّى في ظل نظام (جمهوري) يقوم على الفوضى والانقلابات؛ وإنما في ظل نظام (مَلَكي عادل) وهو الذي أرجوه لليمن؛ كونه يحظى بالقبول والاحترام والطاعة، خصوصًا وكل الحكومات في محيط اليمن إما مَلَكية أو أميرية أو سلطانية.