العزلة بُعد بشر عن البشر، واحتجاب، إما بشكل مؤقت أو دائم، وقد تكون حالة منطقية مسببة، تخضع لظروف خارجية شائكة، أو أنها أصيلة في النفس اختيارية، يلتصق ويتماهى فيها الإنسان مع واقعه وظروفه المعيشية، أو خضوعه لهاجس في مخيلته، أو تبعًا لعلة في نفسيته، يعتقد من جرائها أن واقعه لا يتمثل ولا ينسجم مع الآخرين، وأن جدران الصمت الباردة أكثر حميمية له منهم. وقد قارن العرب بين السرج السابح، دلالة على حياة كثيرة التنقل، تمعن في حب الجموع، ومقابلة الأغراب، والتمتع بما هو موجود على سطح الأرض وفي أغوارها وسمائها، من كل مخلوق مرئي وخفي، وكل جماد، مع صنع روابط تواصل وتشارك فيما بينهم؛ ما يجعلها حياة على عكس نقيض السرج السابح، بالاستكانة وسط ورقات في كتاب، يدس الشخص رأسه بينها، باحثًا عن واقع تخيلي بديل، يغوص وسط معانيه في العزلة، ويجعل منها حياة متخيلة متكاملة الأركان والزوايا والصور والحيثيات. وقد تكون العزلة خارجية قصرية، برفض مجتمعي، أو بوجود اختلافات فكرية، أو عقدية، أو مزاجية؛ فيقوم المنعزل بمحاولات للتجمل، وربما الادعاء والكذب على وعي محيطه، وعلى نفسه، والتشبث بحبال أعذار واهية، وتكرار محاولات الخروج من سجن عزلته، كلما سنحت له الفرصة، ووجد الشخص المتماهي القريب الطيع، والظرف المناسب، والعذر المقنع المعجز المجيب عن الأسئلة المحرجة في تحديد أسباب هجران العزلة من عدمها. أما العزلة الاختيارية فهي أمر يحدث بقناعة تامة، ويقين بأن ذلك الطريق الأسلم، والأكثر راحة، ومنطقية، وسلامة، فيستمر صاحبها متمسكًا بعزلته، قانعًا برونقها الداخلي، لا ينوي الخروج منها مهما كثرت المغريات؛ إما لحالات خوف من التغيير، أو وجود كآبة متشرنقة بعقله الباطن، تحرمه من فرص الاندماج والتكامل البشري المجتمعي. معتزل الحياة الاجتماعية اختياريًّا قد يكون سليم النفسية، غير أنه يملك ذكريات أو تجربة أليمة؛ تجعله لا يعود يأمن الرفقة، ولا يأنس الاختلاط، وربما أن درجات ثقته بالآخرين منعدمة، أو تكاد، بل إنه يرتاح كليًّا حينما يجد نفسه ملتفًّا حول نفسه، دون شك أو خوف أو ترصد. الطبع البشري البدائي منذ عصور الكهوف كان يميل إلى العزلة بدلاً من مصارعة المجهول؛ فيكتفي الفرد بمجرد التمازج النوعي التجريبي مع مَن يعولهم، وقد يعنف على بعضهم، ويرفض بعضهم، وهو بمفهومه المرتعب لا يحبذ تجربة الانفتاح على أهل الكهوف الأخرى، بشكوكه، وعدم قدرته على معرفة مشاعرهم ونواياهم؛ كون حياتهم لم تدخلها ثقافة المجتمع المتكافل، والعادات والتقاليد والقوانين المنظمة للحياة الإنسانية ذات المعشر المتكامل، فيكون قراره فردانيًّا، أنانيًّا، حذرًا مرتعبًا، يعتمد كليًّا على التجارب الشخصية المباشرة، وربما يزيد عليها بما يعنّ على رأسه من تخيلات وأساطير وظنون بأن الطرف الآخر قد يفكر بما يفكر فيه نفسه من شرور، وربما يتجاوز حدود ذلك بأبشع مما يتخيله ويدركه. الإنسان العصري يمتلك خلاصة القوانين الإنسانية المشتركة المثبتة لحرية ذاته، وعدم تداخلها مع حريات الغير، وأمان على ذاته، وممتلكاته، ورغم ذلك فقد يطلب العزلة لنفسه، ولمجتمعه الصغير، مع أنه يظل أمام الآخرين منطقة تساؤل وحيرة، وشك. فلماذا يتحرج شخص من القرب من الآخرين؟ وأين يمكن وضع معاني العزلة هنا؟ فهل تقف عند خوفه الشخصي، أم عدم ثقته في نفسه، أم عجزه عن ملء المكان بالحجج والأفكار، أم لشكوك تراوده، وجهل يلح عليه بما قد يطلبه الآخر ثمنًا للقرب. وربما يرتقي ذلك بجموح ورفض لقواعد المجتمع، وتعمق في معرفة سوء الطرف الآخر؛ ما يجعله يتقي الوجود معه، بيقين مسبق، أو معرفة بعدم تواصل الأرواح وتآنسها، غير أن ذلك إذا عمّ وتوسع ينفي التهمة عن المجتمع والمحيط، ويعيدها لزاوية المنعزل المعتمة الضيقة. وربما يكون ذلك عبارة عن رغبة ذاتية لديه في العزلة عن الجميع، لحالة فنية، أو أدبية، أو إبداعية، أو اكتشاف فكري أو علمي يطمح خلاله إلى العيش فترة هدوء وتمعن، وبحث وتفكير، أو تواصل صوفي مع روح علية، وهنا يمكن قبول ذلك طالما أنه لا يحدث بصيغة العزلة الدائمة. العزلة شأن خاص، يتم حسابها بقدر معطياتها وأسبابها، وقد تكون فترتها عاملاً يشفع أو يدين صاحبها، ولكن محصلتها تظل الصورة السالبة المضادة للانفتاح المبالغ فيه، ضمن صور مجتمعية مدمجة متهاونة، يختلط فيها الأصيل بالقشري، والصالح بالمارق. إذًا فالعزلة حكاية، يحكيها الواقع، ويصمت عن حروفها مَن جربها، وعشقها، أو مَن سُجن في ظلمة زواياها. والعزلة قضبان في النفس، نحن من يحني زواياه، ويصنع خوفه، وينقش خطوط سنوات العمر أربعات متجاورة، ويطويها الخامس بخط يتعارض مع اتجاهاتها على جدران الزنزانة الصدرية، كثيرة الرسوم والخربشة. ** **