تدعونا أعمال التشكيلي إدوارد هوبر، ملهم السينمائيين (1882 - 1967) إلى التفكير في مفهوم العزلة عند المبدعين بصفة عامة. هذا الملقب بفنان العزلة يقف على رأس تجربة فنية مميزة؛ إذ خصص تجربته كلها للتعبير عن عزلة الإنسان وهشاشته في العالم المعاصر. وثمة أدباء مبدعون اختاروا العزلة فكانت أعمالهم تحفاً فريدة، لكنها في ذات الوقت حمالة ريبة وإشكالات؛ فالكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك (ولد 11 أكتوبر 1885 وتوفي في الأول من سبتمبر 1970) كان يرى أن باريس عزلة مكتظة وصحراء بلا عزلة. أما ميلان كونديرا، فصرح في أكثر من مناسبة أن الأصدقاء من يدفع الإنسان إلى العزلة وليس الأعداء. وللشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه (4 ديسمبر 1875 - 29 ديسمبر 1926) رأي آخر عن العزلة، فهو يعتبرها الشيء الوحيد الضروري للذهاب بعيداً إلى أعماق الإنسان والاعتراف بحقيقة لا مفر منها: نحن العزلة وبالتالي فالإنسان كائن وحيد داخل عزلته العظيمة. لكن هذه العزلة تزداد تفاقماً حينما يتعلق الأمر بعزلة المبدع. الكثيرون كانوا يعرفون مكان اختفاء الكاتب الأمريكي جيروم د سالينجر (من 1 يناير 1919 — 27 يناير 2010) فهو اختار مكاناً ما على شاطئ مدينة صغيرة تدعى «هامشير الجديدة»، إذ استقر منذ عام 1953، أي عامين بعد صدور روايته الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان»، اعتزل سالينجر بعدها بطريقة مفاجئة وغريبة الناس والأدب وعاش متخفياً كلص تلاحقه الشرطة. لم هذه الرغبة الملحة لدى الأدباء للاختفاء والانعزال؟ مم يهرب هذا الكاتب ذو الشهرة الواسعة برواية يتيمة وبضع قصص؟ يمكن أن نجد صدى هذه العزلة لدى بطل روايته «هولدن غولفيد» المتمرد على الأوضاع والراغب في الانعتاق والهروب من كل شيء من الذات والجسد والواقع وربما من الحياة نفسها. كان يحلم طوال الوقت بمغادرة نيويورك نهائياً والكف عن محاورة ومجاورة عالمه الفيزيقي والسيكولوجي. قد نعتقد أن العزلة هي انقطاع أيضاً عن الكتابة والإبداع بل على العكس فهي محرك وعش للأفكار. في أحد الحوارات النادرة التي أجريت مع سالينجر يتحدث قائلاً: «هناك سلام رائع في التوقف عن النشر، نوع من السكينة والصمت. يعتبر النشر اجتياحاً لحياتي الشخصية. أحب الكتابة، لكني لا أكتب إلا لنفسي ولمتعتي الشخصية». ربما العزلة الأكثر ثراء وعمقاً هي عزلة الشاعر البولندي من أصل أمريكي تشيسلاف ميلوش (ولد 30 يونيو 1911 وتوفي 14 أغسطس 2004)، كتب شاعر العزلات السبع في رائعته «سيمفونيا شتنبر»: «من أعماق الممر المظلم وجليد الأزمان. مرحباً بك أيتها العزلة يا أمي...»، بينما العزلة الأكثر رعباً والأكثر هلاكاً وغير الممكن إصلاحها هي العزلة التي رسمها. إدفارت مونش (12 ديسمبر 1863 - 23 يناير 1944) صاحب اللوحة المثيرة «الصرخة» التي تجسد شخصاً تحيطه دوامات قانية ومميتة، يدرك في اللحظة المفاجئة والمرعبة أن الطوفان لا محالة سيبتلعه، حينذاك فلا مناص له إلا الصرخة المدوية الممتد صداها الساحق، كلما نظرنا إلى هذا الرجل الأعزل الفاقد للطمأنينة والمساعدة. فان جوخ، بدوره رأى العزلة بين حياة السجناء المضطهدين من طرف قوة تظهر في الأبعاد الدائرية والمتاهية التي اعتمدها في رسمه للسجناء وهم محاطون بأسوار عالية وجحيم أرضي مرعب. سيبقى الروماني إميل سيوران (1911 - 1995) عاشق العزلة الأبدي. عاشها وكتبها وتجاوزها، بنجاح من يقطع مع العالم ويسير في طريق اللاعودة. العزلة بالنسبة إليه مفتاح الوعي بأن هناك خطأ ما في الطبيعة وعلى الإنسان أن يدفع ضريبته. الحضارة خوف والشك هروب نحو الأمام. يستحيل التعميم أو إعادة التكوين أو تجاوز الشيء. الإنسان ليس إنساناً لحد الآن، لأنه لا يعرف قيمة الحياة ولا يدرك قيمة الإنسان. كان سيوران في قمة عزلته يدرك أن هذه الحقيقة: الإنسان يترك وراءه فردوساً جميلاً ويسير نحو جحيمه، للأسف، صنعه لنفسه بنفسه. لكن غاستون باشلار ينقلنا إلى الإحساس الفيزيقي الذي ينقله الأديب عن عزلته لتصير انعكاساً عن عزلة القارئ أيضاً. يقول هذا الفيلسوف السابر للأغوار: «يعتقد الإنسان المنعزل، أنه يعيش مجد وجوده وحيداً، وأن بمقدوره أن يعبر عن ماهية العزلة، ولكن لكل واحد عزلته. والحالم بالعزلة لا يمكنه أن يمنحنا سوى بضع صفحات من هذا الألبوم المضيء والغامض للعزلات الإنسانية. بالنسبة لي، التواصل مع الصور التي ينقلها إليّ الشعراء المنعزلون، تدفعني إلى التواصل بعزلة الآخرين، وهذا يمنحني إحساساً بعزلتي داخل عزلة الآخرين...».