يحتل كتاب «الإيروسية» الذي نشره الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي في خمسينات القرن المنصرم وتحديداً عام 1957 (صدرت أول ترجمة عربية له حديثاً عن دار التنوير وقد أنجزها الباحث التونسي محمد عادل مطيمط -لكن هذه القراءة تمت انطلاقاً من الأصل الفرنسي) مكانة مميّزة في خزانة الكتب الفلسفيّة. فهو، على رغم إثارته موضوعًا أعرض عن التفكير فيه العديد من الفلاسفة، يكشف لنا عن جوانب غامضة من التجربة البشرية من خلال دراسة هذا «الجانب الملعون» في الإنسان. فجورج باتاي (1897-1962) الذي ارتبط اسمه بالمؤلفات الجنسانية والإيمان والإلحاد، خبير في مجال الهوى. جمع في حياته وكتاباته بين الميادين المتناقضة وحاول التفكير فيها كلها. هاجسه الأول الإحاطة بالإنسان التام، غير المبتور، في عنفه وإفراطه، في إنسانيته العاقلة وفي اغترابه ومجونه. ولعل الجسد الذي استهواه في إنسانيته وشيئيته اصبح هاجسه الأوحد. وقد عمل طوال حياته على إدراك كنهه متوسلاً كل السبل بما في ذلك التفكير النظري، فضلاً عن تجربة الإثارة والإباحية. فعالج من وجهة نظر فلسفية مسألة الإيروسية وغيرها من الشهوات التي اعتُبرت دونية أو دخلت في خانة ما لا يجب الحديث عنه كطقوس العربدة والعلاقات المحرّمة والدعارة. وقد شكلت إلى جانب موضوع الموت والمعنى تيمة أساسية في كتاباته، بعد ان خصها، إلى جانب هذه الدراسة، بروايات ك «السيدة إدواردا» أو «قصة العين»، وغيرها من الروايات والكتب التي نَشر بعضها تحت أسماء مستعارة. أقصى الوجود يقع كتاب «الإيروسية» في جزءين يعالج فيهما باتاي موضوعات تتصلّ بالحياة الجنسية التي يكتفي العديد منا بترداد أفكار تافهة أو مبتذلة عنها. فاللحظات الإيروسية التي تفتح لناالأعماق تُهّمش وتُحتقر أو يلفها الفراغ الفكري. وهو يريد في كتابه ملء هذا الفراغ من خلال تقديم فكر متسّق ودقيق على قدر هذه اللحظات القدسيّة التي تأخذنا إلى أقصى الوجود. فالإيروسية باب للتعرّف على حقيقة كياننا، ولا بدّ للفكر الإنساني من استكشافها، ما جعل من باتاي فيلسوفًا سابحًا عكس التيارات الفكرية السائدة في عصره. ولعل التفكير في الإيروسية من منظوره يفتح الباب واسعًا أمام التفكير في تجربة سيادية مكتفية بذاتها على عكس الجنس الذي يستهدف التناسل والتوالد. والإيروسية موقف من الحياة. هي بمعناها الجنسيّ تختلف عن الفعل الجنسي العادي، من حيث أنها لا تهدف إلى الإنجاب وليست مشتركة بين الإنسان والحيوان الذي يكتفي بغريزته. فالإنسان وحده هو من جعل من الجنس نشاطًا إيروسيًّا يتحددّ بالمتعة ويعبّر عن حيوية الحياة وتجلياتها. والإيروسية التي لا تستهدف شيئًا، ترتبط ارتباطً وثيقًا بالموت، كما يرتبط الانقطاع بالدوام الذي يُحدِث فيه قطيعة. ولطالما شبّه باتاي تجربة المتعة بتجربة التكسّر والتحطم، من حيث هي تكسّر للاستمرار وللخطاب والجسد. فالاستلذاذ والنشوة هما نوع من موت. حتى نفهم نظرة باتاي إلى هذه التجربة الوجودية، لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أن الإيروسية ليست عنده مرادفًا لانفلات الأهواء في غياب الماوراء، وهي لا تعني أن كل شيء أصبح مباحًا. انها عودة إلى الجسد والمثال الديونيزيّ الذي قال عنه نيتشه إنه تأكيد دينيٌ للحياة التي لا نقتطِع منها شيئًا ولا نتنكّر فيها لأي شيء. والإيروسية تبدأ من الإقرار بأننا كائنات تتوالد وتتميّز بعضاً عن بعض، وأننا على رغم العلاقة بيننا، كائنات منفصلة توجد بيننا هُوّة وانفصال. غير أننا، وإن كنا منفصلين عن الآخر، نسعى دومًا الى الاتصال به. لكن ما من اتّصال يُمكنه إلغاء الفرق الأولي. فالهوّة عميقة وليس من وسيلة لإلغائها. نحن نحسّ بدوارها ولعلها تجذبنا. هي، بمعنى ما، الموت المدوّخ والفتّان. نحن كائنات منفصلة نموت كلّ على حدة في مغامرة مُبهَمَة، لكننا نملك حنينًا إلى اتّصال مفقود ونرغب في الوقت ذاته في استمرار فرديتنا، فضلاً عن هوسنا باتصال أصلي يصلنا بالكائن عامة. هذا الحنين عند باتاي هو في أصل أشكال الإيروسيّة الثلاثة التي يسميها إيروسيّة الأجساد (الجنس)، والقلوب (الحب)، والماورائي والتي تشكل معالجتها متن الكتاب. فتكون الإيروسية من هذا المنطلق، وبمعانيها الثلاثة، تعويضاً عن عزلة الكائن ومسعى إلى استمراريته التي لا تتحقق إلا بالخرق العنيف والانتهاك للكائن المنغلق في متاخمةٍ للموت حتى الغيبوبة. والإيروسية لا تبلغ امتلاءها إن غاب الخرق والعنف اللذان يكونانها. وهي تبدأ بالعريّ وهو فُتحة الحظ والمجازفة التي تمكّن الجسد من الانفتاح على الآخر والاتصال به بغية الذهاب بالوجود إلى أقصاه. بهذا المعنى يتعارض العريّ مع حال الانغلاق والانفصال، ولعله بداية الاتصال الذي يخرج الكائن من حال العزلة عبر القنوات التي تبعث البلبلة التي تشوش حال الأجساد المتطابقة مع ذاتها، في حركة الأعضاء التي تُمْعِنُ في تجديد الانصهار، إذ تتداخل وتتلاشى الواحدة في الأخرى. والعريّ حضورٌ ومجابهةٌ للخوف وللموت وللآخر، وهو تعبير عن إرادة تجازف بكل شيء بغية الاتصال بالآخر. فلا إيروسية من دون عريّ ومن دون إفراط ومغالاة. فلو كان الإنسان لا يعرف أن يغالي، لما كان سيتمكن من الخروج من ذاته. كان سيعيش منعزلاً وراكدًا. أن يعيش الإنسان الإفراط والمغالاة يعني أن يحاول الإقامة على تخوم ذاته في وجود أكثف وعميق الكيان. لذلك كان لا بدّ من عيش المستحيل واختبار حدود الوجود، بغية تخطيه، والذهاب به إلى الذروة المستحيلة. لذا لجأ باتاي إلى نحت مصطلحات كالمستحيل والحظ والاتصال والسيادة، وهي تشير عنده إلى ما بعد الفكر واللغة حيث الصمت. وللتجربة الإيروسية قواعدها. وهي قبل كل شيء بعيدة من الخطاب الكلاميّ عنها، لأنها في جوهرها صمت ووحدة، علمًا أنها تضع على المحك مجموعة من القوى والطاقات التي تُنهكها وتَزيد من حِدّتها في إسراف وجوديٍّ ظاهر. ولئن كانت اللذة التي ترافق الإيروسية بمعنى ما موتاً، أي غيبوبة وفقدان الوعي والقدرة على الكلام، فهي أيضًا تكسّر وتجزّؤ للاستمرار الوجوديّ. لذا تتبدى الإيروسية بامتياز كمقام الكِسر والتفجّر لكل انفصالٍ وانفصامٍ. وهي تتبدى أيضًا كمقام الاستنفاد لكل موضوعٍ وخطابٍ، حيث تختلط وتتبلبل الحدود بين الحياة والموت. الإيروسية سَفَرٌ إلى أقصى إمكان الإنسان. يكتب جورج باتاي قائلاً: «عن الإيروسية يمككننا القول إنها موافقة وإقرارٌ بالحياة حتى الموت». والإيروسية كالموت تطرح علينا سؤال المعنى والاستمرار والديمومة. فهي لا تمتد في الزمان والانسياب الذي لا يعرف التوقف، ولا تتشكل كحالة ثابتة لا تعرف لها حدًّا. إنها تتجاهل المستقبل والثبوت وهي عبارة عن ومضة بسيطة في اللحظة لا تُسفر عن شيء. وعلى عكس التوالد، الذي بانفتاحه على المستقبل وإدخاله على الوجود التفرقة والقطيعة ما بين الوالد والمولود، تبدو الإيروسية كتوّهج ذوبان وانصهار. «الموت الصغير» ولئن كانت الإيروسية كما يسميها باتاي هي هذا «الموت الصغير»، فإن تحدّيها الأول ليس سوى إذابة عزلة الكائنات القائمة في ذاتها والأجساد المنفصلة وانصهارها ببعضها بعضاً في تخطٍ واضح لحدودها الذي لا يكون إلا بالإنهاك والانحلال. ترتبط الإيروسية إذًا في بعض جوانبها بالموت. غير أنها في الوقت ذاته انكار له، بمقدار ما هي رفض للموت وما هو رفض لها كتجربة مستقلة يتداخل فيها ضدّان هما الحياة والموت، فيتغالبان حتى التساوي. ولربما أمكننا مقارنة الإيروسية بفيضان ماء جارف تصارع فيه الذات الغرقى الموت الذي تخالطه، ولعلها تستقبله، كما الحياة، كعيد أو لحظة حظ. وإذ يشددّ باتاي على أن الإيروسية هي ممارسة آنية في اللحظة، فإنه يؤكد أنها تتفلت من عقال الخطاب. وهي بوصفها فعل تصّدع وتشققّ، تُدخل الذات في تجربة الاضطراب. لكنها في مفارقة ظاهرة تقدم لهذه الذات، مخرجًا يمكّنها من ولوج سبيل السيادة والتوازن البعيد من الانفصال والعزلة. ففي الصدع الذي تحدثه اللذة، تترك الذات، في ذورة نشوتها، وحدتها وانقطاعها عن الآخر، لتدخل في حيّز التجانس وعدم التمايّز حيث السيادة المطلقة. لكن هذا الانتقال لا يمكن أن يكون إلا بشيء من العنف والمغالاة. إن الإيروسية، بمعنى ما، مرادف للتحطيم والتكسّر. إنها هياج أعمى وانحدار إلى اللانهاية المظلمة التي يُطلق عليها باتاي اسم «حال السُخط»، أو اللحظة التي يقترب فيها الموت من الحياة، فينقض عليها ويتمازج بها في لذة منهمرة كفيض ماء، تأخذ بالإنسان إلى غيبوبة تضعه خارج نفسه. بعبارة أخرى لا يبلغ إنسان الإيروسية عند باتاي النشوة إلا عندما يغالي بذاته. وهو، لو لم يكن يعرف أن يغالي، لما كان سيتمكن من الخروج من ذاته ليتدفق في ذوبان هو نقيض الانغلاق على الذات. وإذ يتابع باتاي تحليل الإيروسية وارتباطها الوثيق بالموت، فإنه يشدد على أنها أيضًا مكان سيادة الذات التي لا تتحقق إلا بمقدار ما تُسرِفُ الذاتُ بذاتها. ويهمني أن أشير ههنا إلى أن الإيروسية الباتايية ليست إيروسية تسلية، بوصفها لهوًا يشغلنا عن الموت المنسيّ أو المبعد. بل هي مجابهة حرّة مع الموت، في الخوف والرعدة، ومجابهة مع الذات التي تضع نفسها على المحك حتى تضيع في نشوة التخطيّ. إن مقاربة الإيروسية من هذه الزاوية تجعل من باتاي قريبًا من الفكر الصوفيّ الذي يَعتبِرُ ان النشوة القصوى والانفتاح على اللامتناهي يتطلبان سلوك سبيل الموت الذي لم يعد في الإيروسية مبعدًا، بل مجابهًا من قبل ذات مغامرة تتبدد فيه وتغيب في أحشائه على طريقة تيريزا الأفيلية التي تقول: «لم أكن أعرف أين أبحث عن الحياة التي أتعطش إليها، إن لم يكن في الموت». لكنه في الوقت ذاته يبتعد عن هذا الفكر من حيث غياب الألوهة التي تمنح التجربة الروحية كل معانيها. والإيروسية، من هذا القبيل، بعيدة أيضًا عن مذهب المتعة حيث الإثارة واللذة تتحصلان ضمن حدود الممكن من دون وضع الذات على المحك. هذه الإيروسية الكَذِبة يسميها باتاي إيروسية «عصبة اللصوص». إذ ليس ثمة إيروسية حقيقية من دون مجابهة للموت والتطّلع إلى تبديد الذات الخطر. وحيث إن الذات الهيدونية التي تعمل على تجميع اللذات الجسدانية لا تخاطر بذاتها ولا تبددّها، بل تكتفي بقضاء حاجتها الحيوانية، فإنها لا تقارن بالإيروسية الحقيقية، بل تبقى جاهلةً لها ولسّرها. وليس من المستغرب أن تقتضي الإيروسية بعضًا من الجمالية والانتهاك، التي لولاها لفقدت معناها وباتت عودة إلى الطبيعة الحيوانية، علمًا أن الإنسان التام هو الذي يرفض المعطى الطبيعي من محدودية وتوالد ويجازف بعريه. من هنا أسبغ باتاي على الإيروسية هالة قدسيّة من حيث ارتباطها بحميمية الكائن. فكانت ضيقاً ولذّة، صعوبة وسهولة، جرحاً ومتعة. يقول باتاي: «إن التجربة الداخلية للإيروسية تتطلب مِمن يعيشها حساسيّة لا تقل شأنًا عن الضيق المؤسِس للممنوع، وعن الرغبة التي تقود إلى تجاوزه». إن تجربة الإيروسية هي إذًا تجربة انفتاح وعريّ. والعريّ هو لحظة الضياع حيث الذات تقطع عزلتها وتستسلم بكل كثافتها للآخر. هنا يكون الاتصال بين أجساد مفتوحة وذوات عارية لا شيء يفصل بينها؛ أجسادٌ وذوات تجمعها شهوة تشبه الموت الحاضر أبدًا والذي لا يلتقط. وبما أن التجربة الإيروسية تتم في غياب مطلق للمعنى الماورائي، فهي ليست سوى توق يفتح على ليل ودموع وضحك وعلى صمت وذهول. وللإيروسية مع الجسد عروة وثقى. إنه مقامها وإمكانها المتطلع نحو المستحيل. ولعله في جموحه وانصهاره بالجسد الآخر يأخذنا إلى بعيد. فالجسد ليس مجرد وجه وأنف ويد ورجل وما إليها، بل هو في ذروة التجربة الإيروسية المكان الأكثر كثافة، إذ يتكوّر ويلتف حول مكان متعته، بحيث يتبدى كمكان غريب عن الجسد، يختلط فيه الأرضي بالسماوي. وإذا كان الجسد في أسمى درجات النشوة عائقاً عند المتصوفة، فإنه في الإيروسية ليس عائقًا بل هو مقام الممكن التائق دومًا نحو المستحيل. لا بدّ من القول اختتاماً إن التجربة الإيروسية كما يراها باتاي تفتح على الموت وعلى نَفْي الديمومة الفردية وهي عصيّة على الكلمة. فعندما تغيب الذات في لحظة عن وعيها وتتعطل اللغة وتُختطف الأنفاس، يبقى الصمت وحده سيد الموقف.