عرف الأدب الألماني الحديث راينر ماريا ريلكه 1875 - 1926 شاعراً منذ مطلع القرن العشرين. وأصبحت هذه الصفة ملازمة له، لدرجة ان الشعر الألماني المعاصر برمته اقترن باسمه، وبات من الصعب اضافة صفة اخرى الى ريلكه غير صفة الشعر. بيد ان حقيقة الامر هي ان ريلكه، قبل وأثناء انشغاله بكتابة الشعر، كان قاصاً وناثراً متميزاً، وما زالت كتاباته القصصية والروائية تحظى باهتمام، ولو كان غير متكافئ مع انجازه النثري، لكنه يتزايد على الدوام. وقد تكون التلقائية الذهنية الفطرية التي تطبع احياناً ردود افعال المعنيين بالأدب والثقافة السبب المباشر، وربما غير المتعمد، وراء اقصاء ريلكه قاصاً وروائياً، في الوقت الذي ذاعت شهرة مواطنه وابن مدينته براغ فرانتس كافكا 1883 - 1924 بصفته ناثراً فنياً وقاصاً في ارجاء العالم كله، على رغم ان نتاج ريلكه القصصي لا يقل نوعية عن اعمال الكاتب الرائع كافكا. تناول ريلكه في قصصه المبكرة، وكذلك في روايته "يوميات مالته لاوريدس بريغه" موضوعات كثيرة ومتنوعة، الا انها كانت، كلها تقريباً، تستند بدرجة رئيسية الى وقائع حياته المضطربة، الواعية والغنية بالتفاصيل. لكنّ ما يتميز به اسلوب ريلكه ليس فقط استعراضه للوقائع والتجارب الحياتية، انما الكيفية التي كان يعالج بها الموضوعات الانسانية الجوهرية، وذلك عبر رؤية فلسفية عميقة وغير قابلة للاندثار، ومنها موضوعات الحب والطفولة والحنين والأمل والكراهية والبؤس والعزلة والصداقة والموت. ولعل مفردات الحنين والموت والعزلة كانت هي الطاغية على ابداع الكاتب في اعماله المبكرة، اثر تجارب قاسية خاضها في طفولته وصباه وفاة شقيقته الاكبر سناً منه، وخروجه من المدرسة العسكرية وطلاق والديه على سبيل المثال. بيد ان تلك المعاناة وجدت، نثرياً، ذروتها القصوى في "يوميات مالته بريغه". وهذا بالتحديد ما أضاف عليها طابع الجدّة والمعاصرة، وجعلها بعيدة تماماً عما هو محلي وقومي ألماني محض. وثمة ميزة اخرى تنطوي عليها هذه القصص المبكرة الا وهي ان ريلكه المشهور بمراثيه وقصائده وأجوائه السوداوية المفرطة في اليأس والرعب، يمكن ان يتحول احياناً الى كاتب ساخر متفرد مرير، تنضح كل عبارة في قصصه الساخرة، مثل "وليمة العائلة" و"ايفالد تراجي"، بالتهكم الذكي والنقد العميق لمفاهيم الوطن والعائلة والقومية واللغة، ولكل ما هو مقدس ومغرق في التقليد. وتعود هذه القدرة التصويرية البارعة الى انشغال ريلكه المركّز بفن العمارة وولعه بالفنون التشكيلية، لا سيما النحت. ولعلنا لا نجافي الحقيقة اذا ما قلنا ان ريلكه نحّات يسعى دائماً الى تحويل جمادات العالم الخارجي الى رموز للنفس والعقل، اي انه يحاكي العالم المستقل عن ذاته بصفته صوراً حية عبر عملية التشيؤ، فيجسده شعرياً ونثرياً على هيئة منحوتات، تيمناً بالنحاتين العظيمين مايكل انجلو واغسطت رودان. ولكي ينحت ريلكه قصائده وقصصه، فانه يحاول انتزاع الاشياء من طابعها السكوني السلبي وتحويلها الى وحدات ايقاعية وجودية وحسية، تعبّر عن الذات المحمولة خارجاً، اي انه يقوم بعملية تطهير ذاتية مطردة في محاولة لتخليصها من الازمات الوجودية والتراكمات الفكرية على نحو فنّي. وريلكه، شأنه شأن الكتّاب جميعاً، مرتبط، على رغم فردانيته ونرجسيته وتوحده، بقيم ومعايير الشيء الخارجي المستقل، مثلما يعبّر عن نفسه موضوعياً، حتى لو بدا الشيء متغيراً حسب حالته وطبيعته. لكن ريلكه، وهذا هو العامل الجوهري في شعره ونثره، يمنح ذلك الشيء المستقل الحرية التامة، لكي يعبّر عن نفسه بصورة مثالية، ولكي يمنح كذلك الحرية الى نفسه، باعتباره شاعراً، لاعادة صياغة هذا التعبير صياغة فنية وموضوعية. وعلى هذا النحو الجدلي، فإن العمل الفني ينضج في نفسه اولاً قبل ان يخرج حاملاً سمات الكمال التي تتمتع بها منحوتات مايكل انجلو ورودان. ان الشيء الوحيد الذي يمكن ان يعتبر تجاوزاً للذات المبتلية بالمعاناة هو عرض هذه الذات وتجسيدها جمالياً، مثلما فعل نيتشه الذي تأثر به ريلكه في اعماله المبكرة، وهذا ما فعله من قبله الفنان اورفيوس، المغني الرمزي الذي كان يسحر حتى الأموات بغنائه والذي وضع ريلكه سونيتاته المتأخرة 1922 باسمه، ليجعل منها شاهدة على قبر الراقصة الموهوبة فيرا كنوب التي فارقت الحياة ولم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها والتي كانت تذكره بشقيقته التي رحلت قبل ولادته، ما جعل الأم تنظر الى ريلكه الصغير بصفته تجسيداً حياً لشقيقته، حتى انها كانت تجبره على ارتداء ازياء الفتيات قبل دخوله الى المدرسة. حملت قصص ريلكه ملامح ما كان يسمى بالقلق الوجودي، اذ انه كان واقعاً آنذاك تحت تأثير نيتشه وكيركيغارد. ولعل الاشارة الصغيرة الى "الأوراق المقفلة في الدولاب" في قصة "ايفالد تراجي"، جاءت بمثابة محاكاة لما دوّنه كير كيغارد في مطلع كتابه "اما وإلا"، فضلاً عن الكثير من الاشارات والاحالات المباشرة، بل التراجم التي تناولت اعمال هذا الفيلسوف الدنماركي. لكن اعمال ريلكه لم تقتصر على تمثل الفلسفة الوجودية صرّح هايدغر ذات مرة بأن فلسفته هي اعادة تركيب وصياغة لقصائد ريلكه!، انما عالجت ايضاً قضايا انسانية كبرى كالدين والسياسة والثورة الاشتراكية والتغيير الاجتماعي. ومن الملامح البارزة التي اتسمت بها اعماله التي وصفها روبرت موزيل بأنها من اعظم ما كتب باللغة الالمانية منذ القرون الوسطى، هو المسعى "الاخلاقي" المتواصل لتحويل الأدب الى دين قائم على الحبّ. والحبّ لدى ريلكه هو تخطي الذات المحبة وصولاً الى مرحلة متقدمة من مراحل الوجود المحب الذي لا يضطر الى تزييف ذاته ارضاء للمحب، انما يجعل الحب نفسه كبيراً وعميقاً في قلبه وعواطفه، ليتعادل مع من يحبه، ويحتفظ في الوقت ذاته بجوهره نقياً، رحباً، لا يحتاج الى محبة الآخر. فالحب اذا هو الفيض الروحي استخدم ريلكه عبارة الفيض في قصة "اثناء الحديث" الذي يغمر الآخر من دون ان يطلبه او ان يكون بحاجة اليه. ويتطلب هذا النمط من الحب الالهي البحث الصارم عن الله في الذات الانسانية التي تنزع دائماً الى الحلول في الذات المحبة الكبرى، الناضجة والمتخيلة حسياً وميتافيزيقياً. وذلك يعني التحرر من القيود الأرضية الاجتماعية كلها، بغية تحقيق دين جديد قوامه الحب، ولا شيء غير الحب. وحتى عندما يتعرض في قصصه الى عملية البحث المضنية عن الله فانه يناجي الله الخالد المطلق، او الذات الابدية. ومما لا شك فيه ان ريلكه كان دائب البحث عن المطلق من دون ان يفرط، ولو لمرة واحدة، بالمقدمات الفنية والجمالية الضرورية لذلك البحث، بل كان يلجأ احياناً الى اشد الأساليب امعاناً في التصوف، وهو الغور في اعماق الانسان في لحظات اليأس والاندحار، بحثاً عن الله. وربما كان انعدام الحالة الوسطية في كتاباته، على رغم هدوئها وشفافيتها، سبباً في جذريتها وجرأتها التي لا تضع للضمير الفردي او الاخلاقي ادنى اعتبار، لأن الضمير ما هو الا حالة اجتماعية وتاريخية قد تكون خاطئة او مشوهة، انما يغور مباشرة في اعماق الفرد المجهولة، الفرد المنعزل المقطوع. ومن هذه الزاوية يمكن فهم موقف الابن "الضال" في قصة "توحّد" والذي رجع ليموت في احضان امه، لكنه اراد قبل ذلك القضاء على "مثالها" المزيف المذعور في دخيلتها والذي جعلت منه منافساً لابنها وغريماً له. بلغت نزعة التعرية لدى ريلكه مداها الاقصى في اقدامه على هتك استار وأكاذيب ابطاله وشخوصه عبر تعريته للواقع الاجتماعي والتاريخي، او للطبيعة والبيئة المحيطة بهم، بل انه عمد احياناً الى انتزاع ملامح الوجه وبقسوة تامة، بغية تحويله الى قناع مشوه، مثلما فعل في "مالته بريغه" و"حفّار القبور". - حظّ أبيض استقل موظف التأمين تيودور فنك القطار من فيينا قاصداً الريفيرا. اكتشف في الطريق، وهو يقلب ملزمته اليدوية، بأنه سيصل الى فيرونا في منتصف الليل وعليه ان ينتظر هناك ساعتين قبل مواصلة الرحلة. لم يكن من شأن هذا الاكتشاف ان يساهم في تحسين مزاجه، فأشعل سيجارة، لكنه شعر بدخانها يضايقه، فأخذ يطرده من النافذة بخفقات كفّ واسعة. كانت نظراته تتعقب النقطة المتوهجة في تضاريس شهر اذار الشاحبة الخالية من الاثارة، حيث رقدت بقايا الثلوج في الوديان العميقة مثل وسائد قذرة. بعثت تلك المشاهد في نفسه الملل وكذلك الرواية الصفراء الغلاف الملقاة الى جانبه على المقعد. تناول للمرة العاشرة الرسالة التي كتبها شقيقه المريض في نيس، وكلما تمعن في سطورها القلقة النزقة بدا له واضحاً، انه جاء يلبي نداء شخص محتضر. كما انه لم يشعر يوماً بودّ كبير مع شقيقه الصغير الذي ولد بعده بسبعة اعوام، لأن توعكه المستمر وهشاشته طالما أثارا النفور في نفسه وبدت له حساسية شقيقه المفرطة مخيفة وشديدة الغرابة. انتابه احساس بالخوف من الأيام المقبلة باضطراباتها ومتاعبها العديدة، وشعر ايضاً بشفقة صادقة في الوقت ذاته، مع انه حاول في الحقيقة التخفيف من وطأتهاعبر تفكيره المتناوب في ان شقيقه: "سيكون محظوظاً بلا شك، طالما كان مريضا". ثم غفا اثر هذه الخاطرة. نزل من القطار بمفرده في محطة "فيرونا فيجيّا" وهو في حالة نعاس شديدة، مرضوض العظام ومفاصله تؤلمه، وتبع البوّاب الصامت الى قاعة الانتظار المخصصة لركاب الدرجة الثانية، حيث تركه وحيداً امام الأبواب الزجاجية العالية. دفع تيودور فنك مصراع الباب بمرفقه وانتظر في العتمة حتى الفت عيناه ظلمة المكان. وشيئاً فشيئاً تعرف على الأبواب المقوسة التي تؤدي الى الرصيف المقابل. كان هناك شيء خرافي المظهر محدودب، يستقر بضخامة على أربع قوائم وسط القاعة. في الاخير لمح فنك مصاطب اصطفت بمحاذاة الجدران، فجرجر نفسه بتثاقل نحو أول مصطبة، ليواصل نومه المتقطع. تحسس المصطبة بيده، وحالما احنى ظهره مرق احد ما في الخارج حاملاً سراجاً، فانعكس بصيص مرتجف من النور داخل القاعة، وكشف على نحو عابر عن وجه رجل ملتح يغط في النوم. شعر فنك بالصحو دفعة واحدة وأطلق لعنة، فتردد صوته عالياً في القاعة اكثر مما توقع، فجاءه ما يشبه الرد من جميع الزوايا: زفرات وتمطّ وصرير مصطبة وكلمات حلم شاردة خالية من الصوت. بقي فنك لحظة مأخوذاً، اذ لمح الكثير من الناس الذين كانوا يرقدون هناك، فخطا بمحاذاة المصاطب، وبالقرب من زاوية معتمة تحسس مقعداً فارغاً، فقذف نفسه فيه كالمرهق. ظل جالساً متصالباً، عاجزاً حتى عن مدّ ساقيه. كان مقتنعاً بأن الناس كانوا يضطجعون الى يمينه وشماله، فخشي ان يحتك بهم. كان جفناه ثقيلين ينطبقان ببطء، لكنه سرعان ما فتحهما بعد لحظة قصيرة كما لو ان ذعراً مباغتاً اجتاحه، محاولاً ان يتآلف من جديد مع المكان غير المضياف الذي كانت الاضواء تتراقص، بين الحين والآخر، في ممراته وأروقته كالنوارس. سحب فنك نفساً عميقاً عندما صرّ الباب الذي كان قد دخل منه وتطاول شبحان او ثلاثة في عتمة الممر الحمراء الكابية. لقد دخل مسافرون جدد الى القاعة، فانطبق الباب وراءهم، فأجهد فنك بصره ليتعقب الاشباح، الا انهم انفصلوا عن بعضهم بصمت وسط الظلام الثقيل، ولم يبق سوى صرير الأرائك ينبئ عن انهم قد ألقوا بأنفسهم في مكان ما، فغرقت القاعة في الصمت من جديد. كان فنك وحده يلتقط مئات الأصوات بفعل توتره وحالة الارهاق التي اصابته، فأخذ يتعقب مصدرها، شاعراً بأن كل حرف منها انطوى على قدر من الغرابة والعدوانية. تخيّل الناس وهم يتدافعون مقتربين منه على الدوام، لدرجة انه شعر بالظلام من حوله وقد اتخذ شكلاً مجسداً، فأشعل بوجل وقلق عود ثقاب. تنفس بارتياح بعدما ابصر امامه دائرة الظلمة الواسعة السوداء، ومع ذلك اشعل عود ثقاب اخر، ليزداد اطمئناناً. وحالما تأرجح لهب الثقاب بأزيزه الخافت، ارتفع صوت ما من الزاوية قائلاً: "انه يخطف الأبصار - معذرة". فأرهف فنك سمعه لنبرة الصوت العذبة الخفيفة، ورفع العود الموشك على الاحتراق بتلقائية تامة بحثاً عنه، واعتقد، من دون ان يتأكد، بأنه لمح وجه امرأة ملتفعة بنقاب كثيف. ثم انطفأ النور وبقي فنك قابعاً في الظلام ينتظر الصوت الذي جاء فعلاً: "من المرعب تمضية الليل مع اناس غرباء في قاعة واحدة. أليس كذلك؟ ان الناس في الليل غريبو الاطوار، اذ ان اسرارهم تنمو اكثر من قدرتهم على الاحتفاظ بها وتحملها. ان هذا لأمر مرعب حقاً... لكن الضوء يخطف الأبصار فعلاً". شعر فنك بأن الصوت الناعم الرقيق قد نطق بما كان يخيفه. بيد ان العبارة الاخيرة، التي كان لها وقع الاعتذار، ازالت عنه هاجس الرعب، فأدرك انها لا بد ان تكون فتاة شابة، وربما جميلة ايضاً، هذه التي جلست مباشرة الى جانبه، وجعلته امكانية اختصار ساعات الانتظار بمغامرة صغيرة متوتراً متحفزاً. فتل شاربه بحركة لاإرادية وانحنى بأدب صوب الزاوية المظلمة: "سيدتي، هل ستقلين القطار الهابط الى نيس؟". "كلا، انما سأعود الى بلدي". "في آذار؟ إن الجو بارد جداً في المانيا. لعل إقامتك هناك لم تكن بسبب المرض؟". "أواه. إنني مريضة". نطقت العبارة بحزن، لكن بقناعة ورضى ايضاً. صمت فنك مندهشاً حائراً، وبدأت عيناه تفتشان في الظلام من دون ان تعثرا على شيء. كان الهواء مشبعاً بالضباب سميكاً ثقيلاً، ومن حلم ما انطلقت زفرة، ثم قُرع جرس في الخارج له صوت الصرصار. ولكي يرد فنك عليها بعبارة ما قال: "إنني لست مريضاً، لكن حالة شقيقي أصبحت سيئة في نيس. وهذا هو سبب سفري الى هناك". فجاءه صوت من الظلام: "أواه! يجب ان ترجعه معك، حتى لو كانت حالته سيئة، لأن كل شيء هناك يبدو حزيناً في الربيع المبكر، الحياة والممات...". بدرت عن فنك حركة ما، فقالت المرأة بصوت مطموس النبرات: "يجب ان يبقى المرضى والمتعبون في بيوتهم". فأخذ يفكر: لا بد أنها فتاة شابة. وبعدما رد عليها بالقول: "لكن يجب ان تحسبي حساب المناخ، يا آنسة..."، شعر فوراً بالحماقة وانعدام المرونة. يبدو أنها لم تصغ إليه، لأنها واصلت كلامها: "سأعود الى بيتي، لقد كنت حزينة تماماً، سواء في وحدتي أو بين الزهور". "بلا شك انك فتاة في مقتبل العمر، يا آنسة"، لكنها قاطعت فنك الذي شعر بالاستياء، قائلة ببساطة: "أجل، إنني فتاة شابة". فهجس فنك انها كانت تبتسم. "لكنني سعيدة بوحدتي لهذا السبب بالذات. إنني دائماً ما أكون وحيدة في البيت أيضاً"! أثناء ذلك حضّر تيودور فنك سؤالاً جديداً: "أين تقع بلدتك؟". إلا أنه لم يستطع طرحه، لأنها تابعت حديثها، فأخذ صوتها يزداد نعومة وعذوبة كما لو انه كان ينبعث من مكان ناء، وبدأت تحلم: "إن لي غرفة بيضاء، فتأمل! إن جدرانها بيضاء، ذات نور ساطع، لدرجة ان جذاذة من الشمس تبقى عالقة بها أبداً حتى لو كان النهار رمادياً معتماً في الخارج، إذ أن ثمة نهارات رمادية كثيرة في الخارج. لكن غرفتي دائماً ما تكون مضاءة، وتكون الستائر الشفافة البيضاء مردودة على الشبابيك، وتستقر خلفها الزهور البيضاء والبراعم الصغيرة التي لا تتفتح الى الحد الأقصى والتي لم يكن عطرها نفاذاً، إلا ان الأشياء كلها تتضمخ بعطرها: وسادتي ومنديلي وكتبي المحببة الى نفسي. وفي كل صباح تأتي الممرضة أغاثا وتبتسم لي. إنها تبتسم كلما تزورني، وتجلس على فراشي بقلنسوتها الكنسية. ليديها ملمس أشبه بملمس وريقات الزهور. وهي لا تفقه شيئاً عن العالم، وكذلك أنا، ولهذا فإننا نتفهم بعضنا. وحين تهبنا الشمس دفئاً نادراً في بعض المرات، نجلس عند الشباك ونتطلع الى الخارج، فيبدو كل شيء أمامنا بعيداً بكل صخبه وسعته: البحر والغابة والقرية والناس. في الآحاد عندما تقرع النواقيس نتخيل ذلك مثل ذكرى. حينئذ يطرق بابي الناس الطيبون الذين أعرفهم منذ أعوام طويلة، فيدخلون إلي كما لو أنهم يدخلون الى كنيسة، يسيرون على أطراف أصابعهم، حاملين الزهور، ويرفلون بثياب احتفالية...". ثم حلّ الصمت، وحتى الجرس في الخارج قد توقف عن الرنين، فحدق تيودور فنك في الظلمة منتظراً الصوت، وشعر: "لا بد انها ستواصل الحديث بالصوت الفضي العذب ذاته، وستروي لي كل شيء. يبدو ان حديثها مجرد اعتراف بالذنب، لذلك فإنني لم استطع فهمها. ربما سيصغي لها أحد من هؤلاء الغرباء الكثيرين المتربعين على المصاطب ويفقه ما تقول. لكنني لا استطيع فهمها، بل صرت أخاف منها". في تلك اللحظة نهض تيودور فنك خلسة، من دون ان تبعث المصطبة صريراً، متلمساً طريقه الى باب القاعة الذي أطبقه وراءه بحذر شديد، وحث خطاه كالطريد بين الدهاليز المعتمة الكابية النور في اتجاه البوابة الخارجية، مروراً بحراس المحطة النائمين. أخيراً عثر على البوابة العالية. لم يكن يعلم حينئذ بأنه سار في الشارع المغروس بأشجار الزيزفون والذي كان يؤدي الى قلب المدينة، مردداً شعوره الداخلي: "إنني لأستطيع فهمها"... ولم ينتبه الى نفسه الا بعد ان مرّت أمامه عربة بريد مبكرة في اتجاه المحطة، فوقف ورفع قبعته تحية. وبدأت رياح الفجر تعبث بأغصان الزيزفون العجفاء على نحو خافت وتنثر على جبهته نوارات صغيرة باردة..