كان معنا زمن رغد حين أيقظنا وعي المسافات الفاصل بين الحوار الثقافي والصراع المؤدلج؛ فلم نرض أن ندخل فيه، وكان بديلنا الطرح المنهجي الهادئ المضيء المضيف، وكان الدكتور عبدالله أبو داهش - بهدوئه وعلميته وانصرافه عن يوميِّ اللجاج - أحد من أمدونا بزواياهم في موعد ثابت امتدَّ أعوامًا، واليوم نستعيده في هذا الملف الوفائي السريع كي نَذكره ونُذكّر به وندعو له بمزيد العطاء. * * * أبو داهش ما تختزنه الذاكرة عن أبي داهش بقلم/ أ.د. عبدالله ثقفان الدنيا عندي وعند أبي معاذ مثلما قال أحد المغردين: دفتر الإِنسان أجمل بدايتها الصداقة.. وأحلى سطورها الذكريات.. وأغلى أوراقها الوفاء.. وأجمل ما فيها الصدق. عرفت أبا معاذ بعد أن مرت بنا الحياة وتعدّينا سن الشباب: عمر طويناه لم نعرف طفولتنا من فرط قهر بنا أو فرط حرمان. التحقنا سويًا بالدراسات العليا في كلية الآداب، وقد انضم أخيرًا للجامعة بعد أن كان موظفًا في مصلحة الإحصاءات العامة، وعشنا حياة الدرس والكفاح مع الحياة، لكنه سار صوب جنوب البلاد ليبحث في أدبها بمباركة من الأستاذ الدكتور الشامخ غفر الله له ووسع نزله، أما العبد الفقير فقد اتجه بعيدًا ليستقر به المقام في (الأندلس) - إسبانيا حديثًا وبمباركة من أساتذه أكفاء منهم من قدم إلى رحمته ومنهم من بقي أطال الله في عمره مثل الأستاذ الدكتور حسن ظاظا والأستاذ الدكتور حسن فرهود والأستاذ الدكتور أحمد زكي والأستاذ الدكتور زغلول سلام والأستاذ الدكتور عبده قليقله والأستاذ الدكتور حسن الشماع، ثم معالي الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفدا الذي أشرف علي على الرغم من مشاغله الكثيرة، وقد أضيف إليها هذا الطالب القلق المتعجل في بحثه خاصة أنه قد أوكلت إليه مهمة تحقيق مخطوطة، والتحقيق يحتاج لجهد وعلم وعمل دؤوب.. الخلاصة، مضى أبو داهش في علمه وناقش رسالته، ومن ثم سجّل الدكتوراه في قسم الأدب في جامعة الإمام، وناقشها وقد كنت وقتها بعيدًا عن حضور مناقشة زميل وأخ عزيز، فكأنَّ رسالته هي لي، وكأن تفوقه لي، لا أعلم، ولكن هكذا أنا، لدرجة أنني اتصلت به وأنا في الجزائر عام 1405ه لحضور الأسبوع السعودي الثقافي، اتصلت لأطمأن أولاً عليه، وكيف هي المناقشة، وقد فرحت فرحًا الله يعلم به وكأنها لي أنا شخصيًا لأنني أدرك أن هذا الرجل سيكشف أدب منطقة هي في حاجة للمخلصين الدؤوبين على عملهم للكشف عن خباياها مثل أبي معاذ.. وفعلاً كشف عن الكثير، وكانت دراساته سَبّاقة في الكشف عن هذا الميدان، فقد ركض ركض الواثب الواثق، وسعى سعي الشيخ العالم، وأدرك إدراك الحليم المتواضع.. صارت له سمعته، ونال الأوسمة والجوائز، لتكون تتويجًا لعمل دؤوب مضت عليه السنوات الطوال. إننا حين نبتعد في تخصصنا، لكن الاجتماع عنوان لمحبتنا وتقديرنا، ودافعًا للجري في مضمار الحياة، طالبين من المتصرف في الكون الستر والعافية، فقد توافر لنا (مع تحوير قول الشاعر): كفاف عيش يقينا كل مسألة وخدمة علم حتى ينقضي عمرنا وإذا كان كذلك فإننا ندرك ماقالته الحكمة الفرنسية: الحياة تضع في طريقك أكوامًا من الحجارة، وبيدك أنت القرار: أن تجعل منها جسرًا أو سورًا.. نرجو الله أن يعين في كل حال، فالعلم ميدانه فسيح، والأيام تجري، وعسى المنتهى إلى خير.. * * * بو داهش دقيق في مواعيده: د.صالح بن سالم الحارثي من نجران أزفُّ سلامي لأستاذي سعادة أ.د. عبدالله أبو داهش، الظاهرة الأدبية المميزة، العلم والرمز من رموز الثقافة والفكر والأدب في السعودية، هو أستاذي في مرحلة البكالوريوس في جامعة الملك خالد، حطّم نمطية المحاضرات التقليدية؛ ليصنع منها دقائق ثمينة ينتظرها طلابه بلهفة، وينصتون لها بعمق، وتثير في أذهانهم أفكارًا وتساؤلاتٍ يطرحونها مع أستاذهم ويناقشونه فيها... كنت أنتظر مادته - أدب الجزيرة خاصة أنه مؤلف الكتاب - لأسمع ما سيقول، فوجدتُه مميزًا في الحديث عن الحركة الأدبية في جنوب السعودية، بطريقة سلسة واضحة مدعومة بالأدلة والبراهين، بحرًا في معلوماته، يتحدث وكأنه من عاش الحدث، مما يجعل محاضراته غير مملة، له أسلوبه الخاص في التدريس... تميزُهُ لم يكن خاصًا بمقرره فحسب، فهو العالم الأريب والرجل الخلوق المتواضع، أبعد ما يكون عن الغرور والتكبر على علمه وعلو قدره، دقيق في مواعيده؛ ومن ذلك أنه لم يتأخر عن محاضرة من محاضراته طيلة الفصل الدراسي... حازمٌ في لين، صارمٌ في رحمة؛ يعمل بقول القائل: قسا ليزدجروا ومن يك ذا حزم فليقسُ أحيانًا على من يرحم ومن ذلك إلا يجرؤ أحد على الدخول بعده للقاعة الدراسية على الرغم من تسامحه، لكن هيبته تمنع عن فعل ذلك. كان عادلاً بيننا كطلاب، مقدرًا ومشجعًا لنا جميعًا، رافعًا من روحنا المعنوية، يصنع من طلابه أساتذة الغد، يطرح في نفوسهم بذور الهمم والتطلع للمعالي، وهنا لا أنسى - يومًا - أنه وجدني قبيل بدء المحاضرة بدقائق، فقال: من خلال تدريسي لك وفهمي لمستواك؛ ستصبح معيدًا وستكمل دراساتك بإذن الله، قالها ثم انطلق لبدء المحاضرة. يعرض المادة العلمية بطريقة متسلسلة تشد الانتباه، يتيح المجال للنقاش والحوار، لا يخطّئ أحدًا، بل يصحح بطريقة فيها نوع من الاحترام، لم يخرج عن أجواء المحاضرات نهائيًا. ما فات قليل من كثيرِ عطائه وتميزه وتفانيه، فطبت أستاذي وطاب ذكرك... * * * رائد أدب جنوب الجزيرة علي بن محمد السنحاني الدكتور البحاثة عبدالله أبو داهش له منا كل الاحترام والتقدير أصدر الكثير من الكتب التي جلها يركز على أدب جنوب مملكتنا الغالية والجزيرة العربية وذلك من خلال رحلاته التي امتدت لعقود بحثًا عن الوثائق والمخطوطات، وقد بادر بإصدار حوليات حباشه التي تحولت إلى مجلة فيما بعد لأجل خدمة تراث وأدب وتاريخ جنوب الجزيرة العربية وأحيأ فيها اسم حباشة أشهر أسواق العرب في تهامة الذي اندثر أو كاد يندثر من أذهان الناس، وله تحقيقات بارعة منها مخطوطة القاضي عبدالله العمودي، كما قام بتأليف الكثير من الكتب التي أصبحت مراجع ومناهل لطلاب العلم، من تلك الكتب: أهل السراة في القرون الوسيطة وفيه الكثير من التاريخ الجميل وقد لفت انتباهي وثيقة القضاة سكان الحرجة فكان من السباقين إلى نشرها في هذا الكتاب التحفة، كذلك كتابه عن تنومة الزهراء الذي يحتوي على مواد دسمة منها وصفه لطريق الحاج من صنعاء إلى مكة، وكتاب اليعسوب الذي يحوي ما لذ وطاب من أدب الجنوب، وكتاب حياة في الحياة الذي يحوي سيرته العطرة وغيره من الكتب الرائعة، وما زال يتحفنا كل عام بإصداراته التي نتشوق لها وننتظرها بشغف وتلهف مما يجود به هذا العلم الشامخ في سماء العلم، أسأل الله العلي العظيم أن يشكر سعيه ويجزيه عنا خير الجزاء وأن يبارك في علمه وعمله. * * * صفحات مضيئة في الفكر والتاريخ عبدالله بن سعد الحضبي السبيعي من خلال متابعتي لمجموعة كبيرة من المثقفين المهتمين بالمخطوطات والوثائق وقفت على دراسات وبحوث متقنه للدكتور عبدالله بن محمد أبو داهش فهو يمثل واجهة وثائقية لمنطقة الجنوب. ولعل إصدار قاموس البارع هو ثمرة لها قيمتها الثقافية تجسد شؤون البحث العلمي بعمل فكري أدبي لمصطلحات مرتبة يستفيد منها هواة الأدب التراثي والاجتماعي، والموروث التاريخي، فهو قوي في أسلوبه وطريقة عرضه بمؤلفات زاخرة بالوثائق والمعلومات والصور والمراجع. كما أن فتح باب المشورة العلمية للباحثين في دراسات أدب الجزيرة العربية وفكرها هو تشجيع للأدب من باحث نخبوي له جهود بارزة في الثقافة والتاريخ والدراسات الاجتماعية. وقد كنت عاشقًا لما يكتبه أبو داهش عن منطقة الجنوب، وخصوصًا بحوثه ومقالاته في مجلة الفيصل عن هذا الجزء من بلادنا، أو ما كان يُنشر في مجلة الجنوب آنذاك. وكان اهتمامي يدور حول البحث عمايتعلق بمنطقة بيشة وما حولها ولعل هناك قراءة لتاريخ مناطق الوديان رنية والخرمة، وماكان مدونًا في صفحات المؤلفات القديمة أو الكتب المخطوطة التي لم تطبع وتظهر لبعض المؤلفين المغمورين، ويهتم بها هذا المؤرخ أو غيره من هواة التحقيق الثقافي. وأثناء عضويتي في النادي الأدبي بأبها كنت اتردد على مكتبة النادي لعلني أجد كتابًا أو مخطوطًا عن ذلك لما تحظى به هذه البلاد من باحثين ورواد للكلمة والدراسات الأدبية، أو مهتمين بالتاريخ والديار. فأرشدني أحد رواد المكتبة إلى أن هناك كتبًا لم تر النور في الطباعة أو التحقيق لكنها حبيسة الأدراج. إلا أن الدكتور أبو داهش اهتم بذلك وقدم مجموعات كبيرة ومؤلفات ودراسات واهتمام بالأدب، وعرّف بملامح الصلات العلمية والأدبية بين المراكز الفكرية في الجزيرة العربية. أبو داهش موسوعة ثقافية أسهم من خلال مؤلفاته وبحوثه في نشر ثقافة جزء غالٍ من بلادنا بانتقاء مدروس شامل للسروات وتهامة وعسير، وفكر وأدب أهل الجنوب، هذا المؤرخ يستحق الثناء، والتكريم، ونشر مؤلفاته وتوزيعها والاهتمام بها في دور النشر وفي نطاق واسع بمكتبات الوطن لأنها تحكي تراث وتاريخ وحضارة وملامح الوطن. * * * الدكتور البحاثة عبدالله أبو داهش جدير بالاحتفاء مسعود بن فهد المسردي كعادة حكامنا وفقهم الله في الاحتفاء بالعلماء تم منح الدكتور عبدالله بن محمد أبو داهش العالم المتخصص في أدب جنوب الجزيرة العربية وسام الملك سلمان العام المنصرم لجهوده الحثيثة في توثيق وتحقيق ودراسة تراث جزء غالٍ من بلادنا حفظها الله. وما زلنا نتطلع إلى تكريم هذا العالم بجائزة تليق بمكانته العلمية التي تشهد عليها كتبه ومجلته الرائدة (حباشة)التي صدر منها حتى الآن 28 عددًا حررها جميعًا بنفسه ومشاركاته العديدة في المجلات وتحكيم البحوث والإشراف على الرسائل العلمية، إضافة إلى اهتماماته الكبيرة بالمخطوطات وتحقيقها، وتوثيقها، والتعليق عليها فهو يملك مكتبة ثمينة من الكتب النادرة والمخطوطات الأصلية ما يقدر عددها بثلاثمائة مخطوطة وربما زادت عن ذلك والف وثيقة جمعها بجهود فردية من شعاف قرى عسير، وتهامة. واليمن، ودول كثيرة وحفظ إرثًا كاد أن يندثر، وما زال يواصل عمله الدؤوب بكل تفانٍ وإخلاص. ومن يقرأ كتابه (حياة في الحياة) يرى كيف كافح هذا الرجل حتى بنى قاعدة متينة من المعلومات المؤصلة عن أدب جنوب البلاد فصدق فيه قول الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين وقد جمع الله له بين العلم والتواضع وهذا ديدن من هذبه العلم، فبارك الله في علمه وعمله ومنحه قبولاً يشهد له كل من عرفه أو تعامل معه، كما بارك الله له في وقته فمع انشغاله بالتدريس الجامعي وعضوياته الكثيرة وارتباطاته الأسرية أنجز عشرات الأعمال التأليفية، وشارك في تحكيم كثير من الرسائل العلمية وكتب مئات المقالات وهذا كله من توفيق الله ورعايته، إضافة إلى تبرعه بجائزة سنوية في أدب وتاريخ الجزيرة العربية ينفق عليها من ماله الخاص تشجيعًا منه للباحثين. إن من حق العلماء علينا تعريف الأجيال القادمة بهم لينهلوا من معين علمهم الصافي وليكونوا قدوات لهم يحذون حذوهم ويسلكون طريقهم، كما أن من حقهم علينا تكريمهم والاحتفاء بهم في حياتهم لا كما يقول الأول: لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادًا أسأل الله الكريم أن يبارك له فيما قدم وما سيقدم وأن ينفع بعلمه وعمله. * * * أبو داهش دخيل بن محمد القرني مع هذا الوفاء والاحتفاء بعلَمٍ من إعلام الوطن عبر صفحات «الجزيرة» الغرّاء عادتْ بي الذاكرة إلى ما قبل خمسة عشر عامًا وبالتحديد في عام 1426ه إبّان دراستي مرحلة البكالوريوس بكلية اللغة العربية في جامعة الملك خالد؛ لأتذكّر مواقف سامية وقِيمًا نبيلة وسجايًا حميدة كنّتُ وزملائي نراها متجسدة في قامةٍ علميّةٍ وشخصيّةٍ بارزةٍ في مجال العلم والأدب تطلُّ علينا مع إشراقة الشمس يومي السبت والاثنين من كل أسبوع لتطوف بنا في أنحاء الجزيرة العربية، حتى نستقرَّ في جنوبها لنسبر أغوار الأدب في تلك المناطق بأسلوب أدبي أخّاذ لا يجيده إلا الأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد أبو داهش. وبما أنني كنتُ أحد طلابه في المستوى الثامن ذات يوم أتذكّر عندما نُبِّئْنا بأنّ الذي سيدرسنا مقرر أدب الجزيرة العربية هو الدكتور عبدالله أُصِبتُ وغيري كثير بالرهبة والحيرة فالطلاب السابقون نقلوا لنا بأنه «دكتورٌ شديد» فتبادر إلى الذهن مباشرة احتمالية التعثّر ونحن على عتبات التخرّج! انطلقت المحاضرات ومرّت الأيام تلو الأيام ولم يكن مرور الأستاذ الدكتور عبدالله أبو داهش مرورًا عاديًا كبعض الأساتيذ، فمن أول محاضرة إلى آخر محاضرة يجذب انتباهنا بتدفق معلوماته وثقافته العميقة في مجال تخصصه وسرده الرائع للقصص والأحداث حتى طربت آذاننا وعجّت القاعة بالمناقشات العلمية الثرية التي طالما حفزنا إليها، كما كنّا نتعجّب من حضوره المبكر إلى قاعة الدرس قبل توافد الطلاب لكنّه أراد بذلك الفعل إيصال رسالة عظيمة فحواها الانضباط واحترام الوقت هما سرّ التميز. ومما أتذكره في تلك الأيام أننا أردنا تقديم محاضرة يوم الأربعاء لظروف السفر فقال بعضُنا «مستحيل يوافق على طلبٍ كهذا» وحين دلَفَ إلينا صبيحة السبت عرضنا عليه الموضوع ومبرراته، ولمّا علم بأنّ أغلبنا يأتي من خارج مدينة أبها ومن أماكن متفرقة قال: «ليس لدي مانع وعليكم التنسيق مع القسم» وبعدها نُقِلتْ محاضرة الأربعاء إلى الاثنين، وفي ذلك دلالاتٌ على مرونته ومراعاته لظروف الطلاب. هذا الأستاذ النبيل في خلقه والكريم في تواضعه والغزير في علمه لم نتعلم منه أدب الجزيرة العربية فحسب، ولم يأتِ ليشرح لنا مقررًا جامعيًا فقط، بل كان أعمق وأوسع من كل ذلك؛ حيث كنّا نرى فضائل وقيمًا وتسامح ونسمع توجيهًا وحثًا مستمرًا لطلب العلم وتشجيعًا لنكون بناة صالحين لهذا الوطن الشامخ. ومن تتلمذ على يديه أو رافقه في مسيرته العلمية والعملية لا ينكر هذه المآثر الحميدة في شخصيته وقد أضاف إليها التميز الوظيفي حتى حاز الجوائز والإنجازات ونال بذلك تقدير ولاة الأمر وثقتهم نظير إسهاماته. نعم، ترجّل من العمل الوظيفي قبل أعوام؛ لكنّه ترك خلفه بصمات إيجابية وأثرًا مباركًا في نفوس طلابه وإرثًا علميًا للباحثين والباحثات في مجال الأدب العربي. - الثقافية