جوستاين غاردر هو كاتب نرويجي، ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. اشتهر بكتابته التي تطرح الأسئلة الفلسفية العميقة والمعقدة للناشئة لأنه يؤمن بأنه «طالما نحن أطفال فنحن نملك قدرة الكشف عن العالم في إعجاب ودهشة» لذلك نجد أنه يقدّم أدباً رفيعاً يناقش البحث عن الذات عن أسئلة الوجود الكبرى، من نحن؟ من أين جئنا؟ أسئلة الإيمان والقدر والبحث عن أسرار الذات. ومن هذه الروايات رواية سر الصبر وهي الرواية التي قدمته للجمهور النرويجي ونال بها جائزة النقد الكبرى. سر الصبر رواية داخل رواية مزيج ما بين الأسطورة والفانتازيا وأدب الرحلات، أبطالها الطفل هانس توماس وأبوه الفيلسوف والذي يأخذه في رحلة من أريندال في النرويج إلى أثينا مدينة الفلاسفة وذلك من أجل البحث عن الأم التي هجرتهما من أجل أن تجوب العالم للبحث عن ذاتها حتى استقرت في مدينة الفلاسفة أثينا، وخلال هذه الرحلة نستكشف الكثير من معالم المدن والأرياف، المعابد والأساطير المتعلّقة بها، نستشعر طبيعة وأجواء أوروبا من شمالها حتى الوصول إلى أثينا. خلال هذه الرحلة وعند التوقف في مدينة دورف يصادف الطفل هانس توماس خبازاً يهديه داخل فطيرة اشتراها منه الطفل كتاباً فيه كل الحكاية. ومن هنا نبدأ الغوص من رواية إلى أخرى، رواية أبطالها اثنتين وخمسين ورقة من أوراق اللعب ومن خلال أسطورة اختراع ورق اللعب يناقش جوستاين غاردر أسئلة وجودية كبرى، من أين انبثقنا؟ ماذا نمثل في هذا الكون؟ ما هي مصائرنا؟ وكيف تتشكل أقدارنا؟ ولكن كيف لأسطورة أوراق اللعب أن ينبثق من خلالها كل هذا العمق والغوص في هذه التساؤلات؟ لعبة الورق أوراقها اثنتان وخمسون ورقة بأربعة أشكال (البستوني، السباتي، الديناري، الكبي)، شخصياتها ثلاث شخصيات (الشيخ، الولد، والبنت) وهذا ما يمثّل الزمن، والزمن هو الحياة التي نسير من خلالها. اثنان وخمسون هو عدد أسابيع السنة، الأشكال الأربعة فصول السنة، الثلاث شخصيات عدد شهور كل فصل، وبذلك تلعب ورقة الجوكر دور اليوم المتمم للسنة الكبيسة. أوراق اللعب وإن اُختلف في مخترعها إلا أنها بالضرورة لها مخترع، اختلاف الألعاب التي انبثقت منها باختلاف المناطق والثقافات وعلى مرور الزمن هي اختلاف أقدارنا وتغيرها، وعلى الرغم من أن المخترع الأول واحد، اختلاف دور كل ورقة حسب اللعبة وقوانينها ما هو إلا نحن، ردود أفعالنا تكيفنا مع قوانين الحياة والمجتمع والظروف. من خلال أسطورة ورق اللعب والرواية التي ينسجها جوستاين غاردر بسلاسة ماتعة يصورنا نحن البشر كأوراق اللعب، ففي بداية اللعبة وبعد أن تُسن القوانين يثبت لكل ورقة دورها وقيمتها الذي تعتاد عليهما وفي الغالب لا تخرج عن نطاقهما. وهذا هو الإنسان في الغالب يمر بمرحلة الطفولة والدهشة (مرحلة سن قانون اللعبة) ثم يعتاد الحياة ويصبح العالم وما فيه محض عادة بسيطة، إلا القلة القليلة القلقة التواقة إلى المعرفة، القلة المتسائلة والتي تحب أن تلعب دوراً في الحياة، أن تأثر فيها، أن يكون لها أدواراً متجددة، ويمثل هؤلاء القلة هنا بورقة الجوكر، الجوكر الذي سأل خلال حواره مع مخترع اللعبة أسئلةً نستنتج من خلالها صفات هؤلاء القلة المؤثرة، فكان أول سؤال «أي معلمي ثمة شيء لا أفهمه...» وهذه أولى العلامات «فعندما ندرك أن هناك شيئاً لم نفهمه فذاك دليل على أننا اهتدينا لفهم أشياء كثيرة»، ثم أكمل وشرح لمعلمه تفاصيل ما يراه عن عدد الأوراق والألوان واختلاف الأشكال ثم تساءل: من أوجد هذا النظام الحكيم؟ فجاوبه مخترع اللعبة كاذباً «محض صدفة» فما كان جواب الجوكر إلا أن قال « لا أعتقد ذلك». «كل شيء يبدو وأنه يسير وفق مخطط مسبق، مخطط عاقل ناضج ومحسوب، فنحن إما من جهة الصورة وإما من جهة العدد، تحت رحمة من يمسك بنا بيده، ويملك أن يقلبنا أنّى شاء». وهذا الحوار يقودنا أن الإيمان الحق لا يأتي ابتداءً إلا من خلال التساؤل والشك، والتأمل الحق في نظام الكون لا يمكن أن يهدينا إلى أن هذا النظام محض صدفة. وعلى طول هذه الرحلة المليئة بالأحداث والأسئلة والحوارات وبكل التفاصيل التي طرأت على أوراق اللعب منذ اختراعها والذي يصور لنا من خلاله أن الحياة مليئة بالتغيرات والأحداث والظروف إلا أن الطفل هانس توماس اجتمع بأمه في آخر المطاف وعاد شمل العائلة لسابق عهده ومن هنا يخبرنا غاردر أنه في ظل كل متغيرات الحياة، وتقلبات الأقدار «لا شيء أهم من الحب وأبقى، فلا طاقة للزمان على أن يمسخ الحب». ... ... ... سر الصبر - جوستاين غاردر - ترجمة مدني قصري - دار المنى الطبعة الثانية 2009 ** **