لم تكن السيدة منى زريقات تعلم أن جوستين غاردر سوف يكون محط الانتباه حين عمدت إلى أصدارالترجمة العربية لروايته المعنونة بالنروجية kabalmysteriet والتي كانت صدرت عام 1995. بوصفها صاحبة دار نشر المنى في السويد والناشرة شبه الحصرية للترجمات العربية لكتب جوستين غاردر فقد أنجزت السيدة زريقات طبع وإصدار الرواية العتيدة في بداية هذا العام بعد أن كانت نشرت ترجمة روايته الأشهر"عالم صوفي"وكذلك رواية"فتاة البرتقال". ولكن حدث أن اندلعت الحرب الأخيرة في لبنان. وصعد اسم جوستين غاردر إلى الواجهة بعد أن أثار ضجة كبيرة في الوسط النروجي أثر مقال نشره في صحيفة أفتنبوستن اتسم بنبرة عدائية صارخة إزاء إسرائيل وما مارسته من دمار في لبنان. في مقالته قال غاردر الكثير مما يعتبر صادماً وعنيفاً. وأثارت أقواله ردود فعل عنيفة على المستوى النروجي والأوروبي. "سر الصبر"هو العنوان الذي وضعه مترجم رواية غاردر إلى العربية. لا أعرف إلى أي حد يعد هذا العنوان مطابقاً للعنوان النروجي. ولكن الترجمة العربية جعلت العنوان، ويا للصدفة، وكأنه لسان حال غاردر في الحديث عن المأساة التي حلت باللبنانيين. كعادة غاردر السرد هو ذريعة لقول ما هو فلسفي هو أستاذ الفلسفة واللاهوت في جامعة أوسلو. رواية"عالم صوفي"لم تكن سوى كتاب فلسفي في ثوب رواية. الحال أن هذه الرواية تدرس كنص عن تاريخ الفلسفة في الثانويات العامة. في رواية"سر الصبر"ثمة أسئلة حياتية ولكن فلسفية أيضاً. هذه رواية تقص مغامرات توماس هانس في الطريق إلى اليونان، مهد الفلسفة. هي في الوقت نفسه مغامرة قارئ يشعر بالظمأ للمعرفة ويندفع بقوة الفضول. غالباً ما يكتب غاردر رواياته من وجهة نظر فتى أو فتاة. حدث هذا في رواية"عالم صوفي"حيث تتعرف الفتاة الصغيرة صوفي اموندسن إلى العالم الكبير الذي يحتويها من خلل أسئلتها عن الكون وما يحيطه من غموض وأسرار. أسئلتها هي أسئلة الكائن البشري الأبدية عن الوجود والعدم والزمان والمكان وماهية الإنسان والكون. يحدث هذا في" سر الصبر"أيضاً إذ يبدأ بطلها توماس هانس الفتى رحلة البحث عن أسرار الكون مع أبيه الذي يلقنه الأساطير في الطريق إلى اليونان مهد الفلاسفة والأساطير. تختلط اللحظة الفلسفية بالتأملات الدائمة والحوادث الغريبة والوقائع المدهشة في توليفة تقترب من النص المربك والفضاء الفانتازي. في الرواية تنفتح الحكاية الأولية على عدد هائل من الحكايات التي تجر بعضها بعضاً في سرد متلاحق لانهاية له. الرحلة الحقيقية التي يقوم بها توماس هانس ووالده عبر الحدود من النروج إلى اليونان مروراً بالدنمارك وألمانيا وسويسرا وإيطاليا تسير بموازاة الرحلة الرمزية في أعماق السؤال عن الحياة والموت والمجهول والماضي والمستقبل. البحث عن الأم المفقودة هو بحث عن الحقيقة الضائعة في تلافيف الأيام. رحلة الفتى توماس عبر الجغرافيا والزمن هي أشبه برحلة الفتى في رواية باولو كويلهو"الخيميائي". كلاهما يبحثان عن السر. الإثنان يبحثان عن"سر"يتعين عليهما فك طلاسمه. السر يتجلى في الإشارات واللغات والرموز. ثمة"مفاتيح"، تظهر هنا وهناك، في الطرق والشوارع ووجوه الناس وحركاتهم. هذه المفاتيح تقود إلى بوابة السر. في"سر الصبر"تماماً كما في الخيميائي هناك من يعطي الفتى شيئاً يستدل به في رحلته نحو المستقبل. يعطي أحد الأقزام للصغير توماس عدسة مكبرة في محطة وقود على حدود سويسرا، وفي المساء التالي يصل توماس مع والده إلى مدينة دورف، حيث يلتقي الصغير بخباز المسن يعطيه فطيرة مسحورة يتبين فيما بعد أنها تحتوي على كتاب صغير جداً. يقرأ توماس هانس في الكتاب ومن خلال القراءة يمضي نحو المستقبل. يحاول توماس هانس أن يجد الصلة بين العدسة المكبرة وبين الكتاب الصغير الذي أخفاه خباز دورف داخل الفطيرة. يحاول الكتاب التصدي للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة عبر المئات من الأسئلة المحيرة والإجابات الناقصة التي يكمل التاريخ حلقاتها واحدة تلو الأخرى. إنه علم التساؤل الدائم. فقد ولدت الفلسفة والأساطير من خلال دهشة البشر. ويدرك الفتى في النهاية أن الرجل صاحب الفطائر هو جده الحقيقي والمرأة الجميلة التي لم تجد ذاتها تجد ابنها في الساحة. تقوم الرواية على بنيان لعبة الورق المؤلفة من اثنتين وخمسين ورقة. كل فصل هو بمثابة ورقة في اللعب وهو نافذة غلى المغامرة والترقب والدهشة. وثمة الجوكر الذي لا يقر له قرار والذي يشد خيوط اللعبة ويوثِّق الحبكة ويجعل ما هو غير متوقع واقعاً. في عالم غرائبي كالعالم الذي يشيِّده جوستين غاردر يصير الغرائبي مألوفاً وتنبسط الفلسفة لتغدو مبذولة للمارة وعابري السبيل.