لعل من أبرز ما يميز السرد العجائبي، أنه يمثّل فضاء حافلاً بالمغامرة الخارقة التي تكسر منطق الحياة الطبيعية، لتنقل المتلقي إلى عوالم جديدة، من خلال مزج الواقع بالخيال، وقد بات ميل السرد العربي في الآونة الأخيرة إلى مثل هذا النوع من السرد واضحاً تماماً، ولا سيما في الفن الروائي، كما على سبيل المثال في رواية (حرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصرالله، ورواية (طريق الحرير) لرجاء عالم، ورواية (الموت يمر من هنا) لعبده خال، وغيرهم كثير، ولم يغب العجائبي عن السرد القصصي، إذ بات من ضمن تقنياته الفنية لا سيما مع جنوح القصة إلى التداخل مع الشعري، والاستجابة لروح العصر ذات الإيقاع السريع من خلال ما عُرف بالقصة القصيرة جداً التي تميل إلى البوح والإيحاء والاختزال والتقاطع مع الشعري، وهذا ما سنتوقف عند مثال دال عليه، من خلال مجموعة (رحى) للقاص صالح الغبين الذي يتخذ من العجائبي والرمز أسلوباً تقنياً يميز سرده. وفي هذا السياق نشير إلى أن توظيف العجائبي في السرد يهدف إلى تأكيد فوضوية المُعاش، وتحقيق الرغبات المستحيلة لدى الإنسان عموماً والمبدع على وجه الخصوص، فإذا لم نكن قادرين على تغيير الواقع الذي يسحقنا ويغرّبنا، فليكن الحلم الفانتازي وسيلة لدحره، أو أسلوباً فنياً للدخول إلى ردهاته والعراك مع تصدعاته. على الرغم من تنوع موضوعات السارد في مجموعته القصصية، إلا أنه ثمة خيط إستراتيجي يربطها على صعيد التقنيات الفنية، ويتمثل في محاولة الكاتب تحقيق الإدهاش السردي عن طريق كسر المنطق المألوف للحياة، من هنا فإن الحياة تسير في مكنونها وفق منطق عجائبي وإن بدا ظاهرياً أنه منطقي منسجم، لذلك يبدو أن كسر السارد لهذا المنطق هو فضح لهذا الواقع أو سخرية رمزية مما يمثله، من هنا تحتفي المجموعة بمقولات عدة مضمرة من خلال قصص ذات ترميز عالٍ.. فالرحى التي هي أداة طحن القمح تتحول إلى أداة لطحن الأفكار في الرأس (قصة رحى)، وفي معنى بعيد هي المجاز الذي يطحن العالم الواقعي ليمنحه مجازية مدهشة، إنها استعاضة عن الواقعي من خلال الحياة في المتخيل. تشكل مصادر عدة مرجعيات ثقافية للكاتب صالح الغبين، ويأتي في قدمتها رواية (المسخ) للألماني فرانز كافكا، هذه الرواية التي تعد من أكثر الروايات تأثيراً في الخيال في القرن العشرين، كما أنها من الراويات المُؤسّسة للأدب العجائبي، فكرتها الأساسية تقوم على التحوّل، إذ يستيقظ بطل الرواية غريغور سامسا، ذات صباح فيجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة، فيبدأ الصراع الدرامي بينه وبين محيطه/ أسرته، فيتخلى عنه الجميع، بعد أن ترسخ لديه هذا التحول الجديد، فيبرز صراع القيم الأخلاقية، إذ تطرح الرواية فكرة أن هذا التحول يجب أن يكون مصيره الموت وهو ما آل إليه البطل في النهاية، لقد نجح كافكا بطريقة رمزية، وعبر إطار فانتازي بتقديم مقولة العمل المتمثلة، بأن غربة الإنسان في مجتمع تحكمه قيم المادة، تتمثل في خيارين، أحلاهما مرّ، إما الخضوع لقوانين الحياة التي تجرّد الإنسان من إنسانيته وأخلاقه، فتفنى القيم النبيلة، وإما التمرد عليها، فيكون المصير المحتوم هو الموت. يظهر التناص مع رواية كافكا عند القاص صالح الغبين، من خلال قصة (تحول)، حيث يستعيد القاص الشخصية الرئيسية ذاتها (غريغور سامسا) ليبني قصته، وإذا كانت الرأسمالية الصناعية قد سحقت الإنسان وبدلت قيم الحياة في أوروبا كما يظهر عند كافكا، فإن الغبين لا يتخلى عن تلك الرمزية الأخلاقية، في قصته، وهذا ما يبرز من خلال إصراره على استعادة بطل كافكا باسمه نفسه، وكان بإمكان الكاتب استبداله بأي اسم آخر، لكنه هذا الإصرار يؤكد رمزية الدلالة وحضورها، وإذا كان فعل التحول عند كافكا قد وقع على الشخصية الرئيسية فقط (سامسا)، فإن (سامسا) بطل قصة الغبين سيبقى محافظاً على شكله البشري، صورةً، وإن دل مضموناً على طبيعة وحشية خالية من المشاعر، فالتحول في قصة الغبين، يصيب الآخرين (الأم المتحولة إلى سنجاب محبوس في قفص/ الأب المتحول إلى دب ضخم/ الأخت المتحولة إلى فراشة)، في اختبار رمزي قاسٍ للمشاعر الإنسانية التي أصابها التبلّد والموت، والذي يظهر في ممارسة الشخصية الرئيسية/ الابن، طقوسَ حياته بروتين اعتيادي مقيت. وفي قصة (حساء بصل) يجعل البطل من الحرب الإسبانية التي دامت ما يقارب من مئة عام فضاء مكانياً وزمانياً لقصته، وهذا ما يؤكد انحياز القاص للمقولة الأخلاقية الإنسانية التي تنحاز للإنسان أينما وجد، من خلال سرد يضمر الوقوف في وجه الدمار والحرب، فشخصية (الجد) الذي يخون أصحابه في الحرب بسعر بخس في سبيل الحصول على الطعام، ( صحن حساء البصل)، ثم قتل هؤلاء الأصحاب في المعركة، في سبيل الحصول على طبق أفخم من اللحم، تمثّل بشاعة الحرب في أجلى صورها، فالجوع هو من يربح الولاء في الحرب! لأن الحرب تفرض منطقها الانتهازي القائم على سحق بشرية الإنسان، وهذا ما يتناص من حيث المقولة مع رواية (العمى) للبرتغالي جوزيه ساراماغو، فبعد أن يصيب وباء العمى أهل إحدى المدن فجأة، يكون القتال والحرب هو الوسيلة للحصول على الطعام، فتجرد الحرب الناس من إنسانيتهم، فيصبح العمى دلالة على العمى الفكري لا المادي، وهذا ما عبّرت عنه زوجة الطبيب في نهاية الرواية عندما قالت: «لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون». فالبنية الرمزية في رواية العمى لساراماغو، وقصة التحول للغبين تتقاطعان في الإشارة إلى هشاشة النفس البشرية أمام حاجاتها، فتنهار القيم. وهنا نشير إلى أن السارد لا يلجأ إلى الفانتازي، لينقض منطق الواقع فقط، ولكن يلجأ إليه بغية تشفير دلالي يهدف إلى تقديم مقولات، وهنا يظهر تعالق القصة القصيرة مع الشعر، فهدف السارد أن يبحث عن طرق تعبيرية قائمة على الإيحاء والاختزال وإثارة المتلقي لفك شيفرات النص، وهذه سمات شعرية تُستثمر في القص، فمع انحياز الكاتب لسرد تأملاته السريعة في الحياة اليومية، فإن ذلك لم يمنعه من إسباغ بعد رمزي، عبر استخدام الفانتازي وسيلة فنية تظهر فداحة الواقع، وهذا ما يمكن أن نمثّل له بقصة (حظيرة) وهي من القصص القصيرة جداً، يقول فيها: (نام الراعي ونسي أن يقفل باب الحظيرة، فاستيقظ صباحًا ليجد جميع الخراف في مكانها. لم يكن الهرب من ضمن خياراتها...) فإذا كان الولع بالتفصيلات والوصف من السمات الرئيسية للفنون السردية عموماً، فإن البراعة هنا في الاختزال الذي لا يضع خيارات متعددة أمام السارد، إنه اختبار لمقدرته الفنية على تلخيص كلام كثير بجمل محدودة جداً، فالراعي هنا رمز عام للمستبد في كل مكان وزمان، وعدم الهروب هو تعبير عن ثقافة الاستكانة والاستسلام، والغنم ذات دلالة رمزية على الإنسان الذي يستسلم دون مواربة، ويتخلّى عن عقله الذي لم يعد مستلزمات حياته. وهذه البنية الرمزية تحفل بها قصص عدة، منها قصة (مدير) الذي تتحول أقدامه إلى جذور يابسة، تمتد إلى تحت الأرض، في إشارة إلى التعامل مع المناصب والتمسك بها. والفانتازي الساخر هو ما يميز أغلب قصص المجموعة، التي غالباً ما كانت تتقاطع بالهدف وهذا ما يمكن أن نلحظه من خلال مقارنة قصتين قصة (ذاكرة للبيع) وقصة (بئر)، إذا تتقاطعان من حيث الهدف، فتحوّل الحياة والذكريات إلى كوابيس، يدفع الشخصيات الرئيسية للتخلص منها بعرضها للبيع كأية آلة مستعملة تباع وتشترى، أو إلى رميها في البئر للتخلص من كوابيسها المزعجة لكن الطرافة والرمزية في قصة بئر، تجعل الكوابيس تنتقل بالعدوى، من خلال انتقال الكوابيس التي جعلها أحجاراً بفعل المضخة الحديثة إلى الناس، من هنا تكون السخرية المرة في النتيجة النهائية التي جاء فيها على لسان بطل قصة بئر: (كانت المضخة قويةً جدًا حتى إنها استطاعت أن تسحب ذكرياتنا السوداء وتدفعها عبر الأنابيب المعدنية إلى بيوت القرية. شرِب أهل القرية من ذكرياتنا وغسلوا أجسادهم بها، فأصبحت أرى وجه جدي في كل بيت). إنها الكوميديا السوداء التي تسخر من الواقع، فتجعل من الخيال وسيلة للتحرر منه، وتجعلنا نبتهج بتجربة قصصية تشق طريقها بحرفية في عالم القصة القصيرة السعودية. ** **