في المقدمة التي كتبها الروائي الأميركي جون أبدايك لكتاب "فرانز كافكا، القصص الكاملة" الصادرة عن دار شوكن بوكس في نيويورك في ترجمة انكليزية، يقول : "بعد مرور أكثر من قرن على ميلاده، يبدو فرانز كافكا كآخر الكتّاب المقدسين والممثل الأنبل للمصير الإنساني في العالم الحديث". تضم هذه المجموعة كل ما كتب كافكا من القصص، بدءاً من تلك القصيرة جداً وصولاً إلى أطولها، تلك التي كان كتبها ونشرها قبل وفاته. هناك قصص قصيرة للغاية بحيث لا تتجاوز بضعة أسطر وهناك بعض القصص الطويلة كالمسخ والمحاكمة ومستوطنة العقاب وطبيب الأرياف. كان كافكا نشر هذه القصص في كتيبات منفردة. تمتد القصص زمانياً من 1913 إلى 1919، وهو كان يعمل في تصحيح كتيب آخر حين فاجأه الموت في الثالث من حزيران يونيو 1924 قبل بلوغه الواحدة والأربعين بشهر واحد. بين أوراقه عُثر على ورقة تتضمن ملاحظات لصديقه الحميم ماكس يرود في شأن القصص القصيرة: "من بين كل كتاباتي، فإن الكتب الوحيدة التي يمكنها أن تبقى هي الآتية: الحكم، المسخ، مستوطنة العقاب، طبيب الأرياف، وكذلك قصة فنان الجوع. وعندما أقول ان هذه الكتب والقصة يمكن أن تبقى، فأنا لا أعني إعادة طباعتها ووضعها في متناول الأجيال القادمة. بالعكس فمن من دواعي سروري أن تختفي كلية. كل ما في الأمر أنني لا أمانع، طالما أنها موجودة، إن أراد أحد الاحتفاظ بها". في الرسالة إياها يطلب كافكا من صديقه أن يعمد إلى إحراق كل مخطوطاته"من دون استثناء ومن دون أن يقرأها أحد". وفي ملاحظة أخرى يلح على الطلب بقوة أكبر. ويبدو أن دورا ديمانت، التي شاركت كافكا العيش في أيامه الأخيرة، عمدت بالفعل إلى إتلاف ما كان في حوزتها من أوراق وكتابات. إلا أن ماكس برود عاند ولم يرضخ للطلب. وهو لجأ إلى إخفاء كل المخطوطات عن صديقه. كتب برود في ما بعد:"كان كافكا يلحظ ما تحظى به كل كلمة من كلماته بتبجيل مفرط من جانبي. وطوال 22 سنة من صداقتنا لم أرمِ مزقة من أوراقه، بما في ذلك بطاقات البريد". في حديث بينه وبين كافكا عام 1921 قال برود إنه لن يحرق شيئاً من كتاباته. وبدلاً من الحرق والإتلاف تفرغ لتهيئة تلك الكتابات للنشر. لولاه لما كان العالم قرأ"المحاكمة"وپ"القلعة"وسواهما من الأعمال الصاعقة التي غيرت وجه الأدب. في هذه المجموعة تنهض القصص التي تناثرت هنا وهناك على هامش حياة كرست بالكامل للكتابة والمعاناة. بقي الكثير من القصص بلا نهاية. بلا نهاية كانت القلعة والمحاكمة وأميركا. تقول دورا ديمانت ان قصة"الجحر"، في النسخة التي كانت في حوزتها وأتلفتها، كانت منتهية. في تلك النسخة يتخذ بطل القصة، الحيوان الغريب، وضعية الاستعداد لملاقاة العدو القادم، الوحش، حيث تتم المواجهة ويستسلم البطل. الوحش كان الاسم الذي يطلقه كافكا على مرضه، مرض السل، وهو المرض الذي صرعه. استسلم كافكا للسل في نهاية الأمر. كان يكتب ويكتب فإذا استراح قليلاً أخذ يقرأ ما كتبه لأصدقائه. كان يقرأ ويتوقف بين الحين والآخر ليضحك مما كتبه. هل كانت ضحكات فرح أم سخرية؟ من أول قصة كتبها كافكا وأطلع صديقه ماكس برود عليها تبين لبرود أنه أمام عبقرية فذة. قرأ كافكا قصة"وصف كفاح"وپ"ترتيبات حفلة زواج"، كان آنذاك في مقتبل العشرينات من عمره. لم يستطع برود أن يخفي ذهوله. وجد نفسه أمام خيال آسر لا يشبه أي خيال آخر. في ترتيبات حفلة زواج يمضي بطل القصة، إدوارد رابان، نحو القرية التي سيقام فيها عرسه. ولكن سرعان ما نشعر، منذ السطور الأولى، أن رابان هذا لن يصل إلى القرية أبداً. كان الكابوس الكافكاوي نهض منذ ذلك الأوان الباكر ليقبض على ناصية السرد القصصي. لن تعود القصة، من بعد ذلك، كما كانت من قبل. هذه قصص لا تكتمل نهاياتها عن أبطال لا يصلون إلى نهاياتهم. أهذه كانت حال كافكا؟ أكانت قصصه ترجمات لأعماقه؟ كتب:"أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الواحد منّا هو الزواج وتكوين عائلة وإنجاب ذرية". هو لم يفلح في ذلك أبداً. كان كافكا ينتمي إلى الأقلية اليهودية في براغ. كانت هذه الأقلية معزولة إثنياً ودينياً ولكن لغوياً ايضاً. فقد كان أبناؤها يتكلمون الألمانية. وهو كتب لماكس برود عن معاناته مع اللغة الألمانية والتشيخية على السواء. حاول، من دون نجاح، تعلم اللغة العبرية وكتب أن اللغات كلها تذوي بينما اللهجات تعيش حقاً. قصة"الحكم"هي التي استولت عليه كما لو كان الأمر يتعلق بهذيان. حدث ذلك في ليلة 22 - 23 أيلول سبتمبر من عام 1912. سهر الليل كله وبقي يكتب من دون توقف حتى تخشبت أطرافه. كانت هذه عتبة المطهر إلى غرقة الأدب. كتب في يومياته:"بهذه الطريقة وحسب تكون الكتابة. بهذا التماسك، بهذا الانفلات من الجسد والروح". تتضمن القصة كل عناصر المتاهة الكافكاوية. لا شيء نهائياً. لا حسم. لا ضوء في عتمة النص الداكنة. هناك الغموض والحيرة والقلق. علاقة الأب والابن يلفها الغموض. وليس من منطق مقنع وراء ردود الأفعال المتبادلة بين الطرفين. ثم جاء المسخ. جاء غريغور سامسا، الموظف الذي تحول إلى حشرة. ضعضع سامسا صورة بطل القصة التي كانت راسخة في أذهان القراء منذ زمن طويل. هو ذا البطل العتيد صار حشرة. لم تكن تلك أول إطلالة للبطل/ الحشرة عند كافكا. كان إدوارد رابان، بطل قصة"ترتيبات حفلة زواج"، يمشي وهو يحلم:"أحلم بأنني أستلقي في سرير وأتخذ شكل خنفساء". وسامسا"كانت له أرجل كثيرة تظهر نحيلة في شكل مثير للشفقة مقارنة ببقية جسمه". كان بني اللون وتبلغ قامته من الطول المسافة الممتدة بين مسكة الباب وأرض الغرفة. وهو أعرض من نصف الباب. لا يتحرك فمه بالطريقة التي تتحرك بها أفواهنا وله، مثلنا، حاجبان ورقبة. عندما كانت دار النشر على وشك طباعة المسخ كتب كافكا رسالة إلى الناشر وحذره من احتمال أن يعمد مصمم الكتب إلى وضع صورة حشرة على الغلاف. قال كافكا: انتبه إلى ذلك ارجوك. لا يمكن رسم الحشرة. بل لا يمكن الإحاطة بها من بعد. وهو اقترح رسم صورة للعائلة جالسة في الغرفة والباب مغلق بحيث لا يظهر أي أثر لغريغور سامسا، أو أن يكون الباب مفتوحاً على ظلام دامس. كان سامسا، الحشرة، إيذاناً بالدخول إلى العالم الحيواني. اقتحم الحيوان صدارة النص سارداً أو مسروداً. ولكنه، في الحالتين، يأخذ مكان الإنسان ويهجس بهواجسه. سيظهر ذلك في الجحر وتحريات كلب وجوزفين المغنية وتقرير إلى الأكاديمية وسواها من القصص. لربما كان كافكا يرى إلى نفسه في وضع قريب من وضع أبطاله حيث الذعر يحضر في كل ركن. في رسالته الطويلة إلى والده، التي كتبها دفعة واحدة في تشرين الثاني نوفمبر من عام 1919 يصف نفسه بأنه"هيكل عظمي صغير"إلى جانب والده الهائل حين كان يرافقه، وهو صبي صغير، إلى المسبح. يكتب كافكا: هرمان كافكا، والدي العملاق، السلطة الطاغية، كان ابناً لجزار من قرية في جنوب بوهيميا جاء إلى براغ واشتغل في التجارة وأنشأ محلاً لبيع الملابس بالجملة للباعة القادمين من المدن والبلدات الصغيرة. كان والد كافكا ضخم الجثة، وهذه حال جميع أفراد عائلة كافكا فرانز نفسه كان طويل القامة. كان الجميع منهمكين في الأعمال والتجارة وكان الأب يهيئ ابنه ليحتل مكانه في تجارته. غير أن فرانز كان يهيم في عالم آخر. كان مرهف الحس، صامتاً، خجولاً، هش الروح. ولهذا كان حضور والده من حوله أشبه بكابوس ثقيل. كان والده أخرجه من البيت ووضعه على الشرفة ذات مرة، إذ كان صغيراً، ذلك أنه لم يكف عن البكاء. لم تبارح صورة الأب، بصفته سلطة قاهرة، مخيلة الابن. وكانت الرسالة المطولة، بالشكوى والعتاب، تشبه تصفية حساب. فيها أفرغ فرانز ما في نفسه من أنين مكبوت. من ذاك المناخ انبثق العالم الكافكاوي كما تجسد في القلعة والمحاكمة ومستوطنة العقاب. منذ أول سطر خطه فرانز كانت الكافكاوية، بمثل ما يعني جون أبدايك، تنهض رويداً رويداً. لم تنبثق الكافكاوية من شخص كافكا، بل من الحال التي أبدع في رسمها، مثلها في ذلك مثل الأورويلية التي طلعت من الوضع الذي وصفه جورج أورويل حيث يهيمن الأخ الأكبر ويفرض سلطانه على كل من وما حوله. كان كافكا، مثل أورويل، كمن يتنبأ بالمصير البشري في ظل مناخات الرعب التي انتشرت تحت الأنفاس الثقيلة للنازية والستالينية. هنا وهناك انفلت الرعب من عقاله وساد العبث. تحول الكائن البشري إلى ما يشبه حشرة مذعورة تطاردها قوى شريرة تحاول أن تجرها لتخرجها من جحرها، وتفلح في ذلك. ستكون معسكرات النازيين صورة مكبرة من مستوطنة العقاب وستكون المحاكمات الشهيرة التي عقدها ستالين للقادة السوفيات مشهداً مكبراً للمحاكمة الكافكاوية. الدولة ومؤسساتها، في المنظور النازي والستاليني، صارت خنفساء عملاقة تحرك أطرافها في الهواء بعد أن انقلبت على ظهرها. اشتغل كافكا 13 سنة موظفاً في مكتب للتأمين ضد الحوادث في مملكة بوهيميا. هناك كانت مهمته أن يكتب التقارير عن الحوادث التي تصيب العمال. وهو كان على وشك أن ينال ميدالية الدولة"لإسهامه في تأسيس مآوي المتخلّفين عقلياً وتشغيلها"حين انهارت امبراطورية الهابسبورغ عام 1918. عاش كافكا بهدوء داخل الجماعة اليهودية في براغ من دون أن يشاطر الجماعة رغباتها وأحلامها وانشدادها المزمن الى أرض الميعاد. ولكنه انحاز إلى النصوص التوراتية والتراث اليهودي كتعبير عن رفض سلطة أبيه الذي كان تخلى عن يهوديته واندمج في النخبة التشيخية وانصرف إلى التجارة وجمع المال. وإثر ذلك انصرف كافكا إلى قراءة الفلاسفة اللاهوتيين المسيحيين. كتب في يومياته:"اليوم قرأت"كتاب الحكم"لكييركغهارد. وكما توقعت فإن حالته، على رغم الاختلافات الجوهرية، شبيهة بحالتي. إنه يقف على الجانب الذي أقف فيه من العالم. هو يبدو مثل صديق لي". وفي ما بعد كتب:"كييركغهارد يشع مثل نجمة، ولكنه يشع في عالم لا أستطيع الوصول إليه". أن نقرأ الآن قصص كافكا، المضمومة في هذه المجموعة، يعني أن ننال، مرة جديدة، الفرصة لنغوص في أعماق الغرفة السرية للكتابة التي كان كافكا يكف فيها عن أن يكون عبداً ويحلّق في سماء الغرفة بجناحين من نور.