يتحدث الروائي كويتزي على لسان اليزابيث كوستيلو، الشخصية الروائية في الكتاب الذي يحمل اسمها، عن العلاقة التي تجمع بين الإنسان والحيوان. الكتاب المذكور يكثف وجهة نظر الروائية في شأن حقوق الحيوان. وهي تلاحق موضوعها في محاضرات تلقيها في جامعة دعتها للحديث عن تجربتها الروائية. بدلاً من الحديث عن سيرتها الذاتية تروح اليزابيث تتحدث بحماسة عن سيرة الحيوان. تستكشف جوانب هذه السيرة من طبقات النظر الفلسفية والشعرية والجمالية مكرسة فصولاً خاصة عن"الفلاسفة والحيوانات"و"الشعراء والحيوانات". والحال أن كويتزي يتوسل القص ذريعة لإنجاز مقاربة أخلاقية للعلاقة الملتبسة بين الإنسان والحيوان والخلل المميت الذي يصيب هذه العلاقة لغير مصلحة الحيوان فيما ليس أكيداً أنه لمصلحة الإنسان. ومع هذا فالأمر لا يتعلق بمرافقة دفاعية كتلك التي يتقن القيام بها دعاة حماية الحيوان. كويتزي يطرح رؤية فلسفية ترى في الحيوان كائناً يملك السيرة والمشاعر والأحلام والمستقبل. وليس هذا جديداً في مقام الكتابة الإبداعية شعراً أو قصة او رواية. ليس كتاب إليزابيث كوستيلو الذي صدر عام 2003 سوى نسخة معدلة من كتاب آخر كان كوينزي أصدره تحت عنوان: The lives of animals حياة الحيوان في عام 1999. والفكرة الأساسية التي يطرحها الكتاب تقوم في تحريضنا على التأمل في الحيوان كشخصية مفردة تفرح وتحزن. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تظهر مشاعرنا بليدة بحيث نعجز عن التعاطف مع شريكنا في المعمورة ولا نكترث لما يصيبه من أهوال تنزل به من أيدينا بالذات؟ يهزّ كويتزي قناعاتنا في أخلاقيات معاملة الحيوان ويمضي إلى حد تصويرها في هيئة سلوك نازي مستمد من يقينية داروينية بائسة تقول بتفوق البشر على غيرهم من مستوطني الأرض. لبشر لا يتورعون عن ارتكاب مجازر بحق الحيوان. صاحب"البومة العمياء" كان الكاتب الإيراني صادق هدايت غاص في السؤال نفسه قبل كويتزي بعقود. في بدء عمله الإبداعي ألف هدايت كتاباً دعاه "إنسان وحيوان"يخوض في مقاربات الفلاسفة والعلماء والكتاب، في الغرب والشرق، للحيوان. ويفيض صادق هدايت حناناً ورقّة إزاء الحيوان حتى أنه كان يعمد إلى التقاط الحشرات عن الطريق لئلا تدعسها الأقدام ويمضي فيحطها في مكان آمن. وفي مقدمة الكتاب يضع بيت شعر للفردوسي يدعو إلى تجنب إلحاق الأذى بالنمل لأنه كائن روحي مثل البشر: ميازار موري كه دانه كش استكه جان دارد وجان شيرين خوش است. وقد تكون هذه النظرة الرحيمة هي التي قرّبت هدايت من البوذية. أو ربما كان العكس فيكون إطلاعه على الفلسفة البوذية، وما تتضمنه من تعاطف مع الحيوان، زرع فيه الرأفة. وكانت لعائلته أيضاً علاقة ودودة مع الحيوان، فقد كانت أمه، وهي من الطبقة الأرستقراطية في طهران، تحب القطط وتعتني بها فيما كان أبوه يملك كلباً يدعى سياه أي الأسود ويعتني به اعتناء كبيراً. ويكتب جهانكير هدايت، شقيق صادق، في المقدمة التي كتبها لكتاب"إنسان وحيوان"في طبعتها الحديثة الصادرة عام 1989، أن قلي خان هدايت والد صادق الملقب اعتضاد الملك وكان ديبلوماسياً ومؤرخاً أصيب بمرض ومات. ومن أثر ذلك افترش سياه زاوية في ساحة البيت ووضع رأسه على قدميه ولم يبرح مكانه فلم تمض ثلاثة أيام حتى مات. ثمة أثر لهذه الحادثة في قصة"الكلب الشارد"التي كتبها صادق هدايت. حضور الحيوان بارز في أكثر من قصة من قصص هدايت مثل"ثلاث قطرات دم"وپ"دمش آكول"وپ"البومة العمياء"وپ"الكلب الشارد"وسواها. بل أنه لم يترجم من أعمال كافكا سوى تلك التي تتخذ من الحيوان بطلاً لها كپ"المسخ" وپ"عرب وبنات آوى". تقرير كافكا لدى كافكا تغيب الحدود بين الإنسان والحيوان فيتحول أحدهما إلى الآخر من دون أن يفقد خصاله الأولى. غريغور سامسا، في المسخ، يتحول إلى حشرة. أما بيتر، في قصة"تقرير إلى الأكاديمية"فإنه يروي سيرته الذاتية الكامنة في تحوله من قرد إلى إنسان. أما الكلب، في تحريات كلب، فإنه يروي بشغف نوستالجي عميق عن أيامه حين كان فرداً في ما يسميه"المجتمع الكلبي". يقول:"حين أعود بذاكرتي إلى الوراء أتذكر ذلك الزمن الذي كنت لا أزال فيه عضواً في المجتمع الكلبي، أشاطر الكلاب همومهم وانشغالاتهم". يتحدث الكلب، بطل القصة، بطريقة تبدو وكأنها محاكاة للكائن الإنساني، المسيطر على الدفة والمتحكم بغيره من الناس والحيوان يفحص أحوالهم وسلوكهم. يقول الكلب:"تبدو لي الكلبية مؤسسة مذهلة من كل النواحي. إلى جانبنا نحن الكلاب ثمة أنواع كثيرة من المخلوقات في هذا العالم. مخلوقات بائسة، محدودة، صمّاء لا لغة لها بل هي تطلق أصواتاً ميكانيكية. يعمد كل منا، نحن الكلاب، إلى دراسة هذه المخلوقات وإطلاق تسميات عليها والقيام بمحاولة مساعدتها وتربيتها وتهذيبها وما شابه". يسرد هذا الكلب تحرياته في ميدان التاريخ والأنتربولوجيا الكلبية، إن كان لنا تسمية الأمر على هذا النحو، وهو يكشف عن ثقافة رفيقة في الموسيقى والرقص والأخلاق وحس المسؤولية إزاء الآخرين. غير أن بطل قصة"الحجر"لا يملك مثل هذا البذخ. إنه حيوان صغير مذعور، يقضي أيامه كلها خائفاً من أن يقوم أحدهم بدهم حجره وتهديمه بل وربما محاصرته هو نفسه، وقتله. إنه يعيش فريسة قلق مرعب من إمكان تعرضه إلى هجوم عدواني يشنه أحدهم فيدمر منزله ويفسد عيشه ويحوله إلى طريدة هاربة مكشوفة في العراء. على رغم الخوف القاتل، بل ربما بسببه، يتحول الحيوان إلى كائن يقظ يستنفر كل طاقاته لاجتراح أفضل السبل من أجل حماية مسكنه الهش. يتكلم الحيوان، مستعملاً صيغة الأنا، سارداً ببراعة لا متناهية هواجسه النفسية وطارحاً لنفسه كل الاحتمالات الممكنة في أمر حدوث عدوان غاشم والإمكانات المنطقية، والإستراتيجية، لصده. البطل في قصص كافكا لا يتحدث عن الحيوان بل يتحدث كحيوان. ليس ثمة النبرة الإنسانية الاستعلائية التي تحاول الظهور بمظهر كائن علوي، متفوق. الشخص الإنساني نفسه لا يستعرض قوته ولا يحاول أن يبرز نفسه كشخص ذي عاطفة رقيقة يتعاطف مع الحيوان ويحن عليه ويرأف بحاله. ها هنا الحيوان متساو من الإنسان في القيمة الحياتية. الحيوان هو الذي يتولى السرد ويكشف النقاب عن أعماقه ويروي آلامه وآماله ويبين المأزق الوجودي الذي يعيش فيه ليس بسبب كونه كائناً أدنى مرتبة من الإنسان بل لمجرد أن يكون موجوداً في هذا الكون. الحيوان، مثله مثل الإنسان، سجين فخّ حياتي خانق يطبق على أنفاسه ويحول عيشه إلى جحيم مستمر لا ينتهي إلا بالموت. غريغور سامسا كان يعيش هذا الجحيم قبل تحوّله إلى حشرة. كان موظفاً بسيطاً يتبع أوامر رب عمله ويخضع لنظام روتيني صارم يقتل الطموح لديه ويحوله إلى كائن بليد يقضي الوقت كله في مطاردة لقمة عيش مريرة. فماذا تبدل حين استيقظ في ذلك الصباح ووجد نفسه حشرة... لم يكن كافكا يكتب على أرضية رسالة تبشيرية بتخليص الحيوان، أو الإنسان، من عذابه والتحريض على استجلاء حياة أخرى أقل وطأة وأكثر إشراقاً. يكتب عن مصير الكائن، مصير ذلك الرجل الذي بقي ينتظر أمام المحكمة طوال عمره وحين أشرف على الموت دعاه الحارس للدخول، فلم تكن بوابة المحكمة موصدة إلا من أجله كي يدخلها! كويتزي عمد إلى كسر الحاجز بين الواقع والتمثيل حين جعل من اليزابيث كوستيلو شخصية حقيقية، حتى يتجرأ القارئ على التشكيك في وجود كويتزي نفسه والاستفسار عما إذا كان مجرد شخصية خيالية اقترحتها مخيلة اليزابيث كوستيلو. النص يقول أن كوستيلو ولدت عام 1928 وأصدرت 9 روايات وأولى رواياتها يحمل عنوان"البيت الذي في شارع كلس"وبطلتها الرئيسية ماريون بلوم، زوجة ليوبولد بلوم بطل رواية أخرى هي يوليسيس لجيمس جوليس. هكذا تتداخل الوقائع والكتابات وتضيع الحدود الفاصلة بينها ويمتزج المنطق بالخيال حتى نجد أنفسنا، في نهاية الأمر أمام فضاء فانتازي يصبح فيه كل شيء متوقعاً وممكناً. فإذا كان ممكناً تخيل العيش الذي يخوض فيه الناس في حيواتهم العقلية وما يقاسونه من أهوال مدمرة على صعيد الروح والجسد فلماذا لا يكون ممكناً تخيل حال غريغور سامسا وجوزيف ك. وك وسواهم؟ بل لماذا لا يمكن تخيل وجود"الخلد العملاق"الذي يتحدث عنه بطل القصة التي تحمل العنوان نفسه. وكذا مآل قصة جوزيفين أو شعب النمل أو"عرب وبنات آوى"إلخ. في رسالة إلى الوالد نحس بسلطة الأب القاتلة وبحضوره شبه الخرافي. يبدو ككائن اسطوري ضخم الجثة وقاسي الروح. الإنسان والحيوان، كلاهما، يملكان احتمال أن يتجاوزا الواقع ويتحولا إلى كائن هجين لا حد لغرابته. كائنات بورخيس واورويل كان خورخي لويس بورخيس أدرك هذا الأمر. بدت له الحياة كلها مثل حلم، أو كابوس، في حين ظهرت الكائنات في هيئة مفردات غريبة في كتاب حلمي. كتاب بورخيس عن الكائنات الخيالية يفتح النافذة على ذاك العالم. إنه أشبه بموسوعة عن ضراوة العقل البشري في تخيله لكائنات غريبة لسرد أسماء الحيوانات وملامحها وخصالها مثلما وردت في مدونات الأقدمين. الحكاية تقترن بالخرافة. غالباً ما يكون الأمر على هذا النحو. غالباً ما تكون الخرافة بمثابة الصرخة الفانتازية للخوف القابع في النفس. إدغار آلان بو لا تغيب الخرافة من الذاكرة حتى في حضور الحيوان الأليف. الكلاب والقطط تملك النصيب الأوفر من الترميز الخرافي. في بعض الحالات يقترن حضور هذين النوعين بتشخيص مخيف للوضع الإنساني. يتفوق إدغار آلان بو في إبراز هذا الجانب. في قصصه عن الحيوان يدفع الإنسان ضريبة معاملته السيئة للحيوان في هيئة عقوبة فظيعة تنزل به بطريقة غامضة وغريبة. القط الأسود، يقول إدغار بو، هو الهيئة التي تتلبسها روح المنتقم. يواجه بطل القصة، الروائي، الأهوال بعد أن يقلع عين القط ثم يعمد إلى قتله. تعود روح القط لتنتقم منه، أولاً بأن تدفعه إلى قتل زوجته ثم باكتشاف الشرطة أمره بعد أن دفن زوجته وراء الحائط. قد يكون الحيوان نذيراً يحمل القلق والشك والخوف والأمل والألم والحزن واليأس. كما في قصيدة"الغراب. أخذ جورج أورويل السياسة إلى فضاء الحيوان من دون تزويق. نقل الخطاب السياسي إلى الإسطبل الحيواني ليقول أن الدهاء والمكر والخداع سلوك راسخ. نقرأ حوارات الخنازير والكلاب والدجاج والأغنام وينهض أمامنا مشهد الحوارات السياسية بين أقطاب الحركة الإشتراكية الروسية. هناك جرى قلب الأدوار وحل النفاق محل الصدق. في الأحوال جميعاً تنهض الخلاصة واضحة: لا شيء يبرر معاملة الحيوان باحتقار ودونية. الهمجية التي ننسبها إليه لا تزيد كثيراً بحسب كويتزي عن الهمجية التي يتصف بها الإنسان، السياسي والعقائدي، كما يشير جورج أورويل.