تُقاس رجعية الشعوب أو تحضّرها بالسجل الحقوقي للمرأة والطفل وحرية الفكر والتعبير. وتظل المرأة الرمز الأبرز لتقييم مستوى تحضّر الشعوب أو تخلفها؛ لأنها عانت عبر تاريخها الإنساني من الكثير من الاضطهاد والعبودية والتهميش وتزداد تلك المعاناة في المجتمعات الدينية، لتصبح المرأة «رهينة محبسين» «الخطيئة المحتملة» و»الفتنة الموقوتة» وهو ما انعكس سلباً بلا شك على الذهن الجمعي العام نحو المرأة في تلك المجتمعات والذي كان حاصله «عزل المرأة» عن الاندماج الاجتماعي وفرض عليها إقامة جبرية في «البيت» باعتبار أن «الخروج» هو تخلياً عن الإيمان والحياء والشرف والكرامة، وحشد الخطاب الديني لتشريع هذا المفهوم عقيدة العقل الجمعي بكافة أطيافه، وهو ما جعل منطقه الباطل- الخطاب الديني - تعميماً ساري المفعول. وذلك العزل كانت نتيجته تجريد المرأة من كافة حقوقها الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والفكرية بحجج ما أنزل الله بها من سلطان. هذا التجريد الذي كان الخطاب الديني محركاً له، وقد أسهم القرار السياسي ما قبل 2009 الذي كان يسير على استحياء في دعم تمكين المرأة في توثيق مفهوم ذلك الخطاب وآثاره. لكن مع تطور الفكر السياسي الذي اتضحت ملامحه بعد الحرب على الإرهاب وانضمام السعودية إلى منظمة مكافحة التمييز نحو المرأة ودعم تمكينها على كافة المجالات، وتوسع دائرة طبقة المتعلمات وظهور أثرهن في تقدم المجتمع والبحث العلمي العالمي، إضافة إلى ظهور جيل جديد من العقل الاجتماعي أقل تطرفاً.. والأهم تراجع الخطاب الديني بعد موجة الإرهاب والتطرف الذي أسسه ذلك الخطاب ونشر شره في العالم، وافتضاح ازدواجيته وبطلانه. كل تلك الأسباب فتحت مرحلة جديدة للمرأة السعودية تغيَّرت معها الصورة الذهنية لها في العقل الاجتماعي ولم تتغيَّر بالطبع قوة المقاومة والتحدي. كان عام 2009 عاماً مفصلياً ومميزاً للمرأة السعودية، أو كما وصفته في ذلك الوقت الدكتورة «انتصار فلمبان»- عضو مجلس إدارة المنظمة العالمية للاتحاد الأفروآسيوي- «العام الذهبي للمرأة السعودية». ففي هذا العام تم تعيين أول امرأة نائبة لوزير التعليم «نورة الفايز» والتي اختارتها فيما بعد «مجلة التايم» من ضمن 100 شخصية مؤثِّرة في العالم لتحتل المرتبة الحادية عشرة وقد علّقت مجلة التايم على تعيين نورة الفايز كأول نائبة لوزير في السعودية «بالتغيير الصغير الذي أحدث زلزالاً»، وفي نفس العام برز اسم الدكتورة «أروى الأعمى» لتوليها منصباً قيادياً في وزارة الشؤون البلدية و القروية، وفي نفس العام برز اسم الإعلامية «سناء مؤمنة» كرئيسة قناة «أجيال الفضائية» لأول مرة في السعودية، وكذلك برز اسم الدكتورة «لمى السليمان» كنائبة لرئيس الغرفة التجارية والصناعية في جدة. كما رسمت المرأة السعودية في هذا العام خطها العلمي في كافة المجالات الحيوية على المستوى العالمي فبرزت غادة العقيل والدكتورة غادة المطيري التي ترأست مركز أبحاث بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو. كما برز اسم الدكتورة «ناهد طاهر» ضمن أفضل 50 سيدة من سيدات الأعمال وكانت المرأة العربية الوحيدة في هذه القائمة. وبعد هذا العام توسعت إنجازات المرأة ومجالات تمكينها سواء على المستوى المحلي أو العربي أو العالمي. لتقفز المرأة السعودية نحو الاعتراف بحقها في المشاركة الاجتماعية و تمكين فاعليتها قفزة كبيرة ظهرت من خلال دخولها مجلس الشورى، ومشاركتها في الانتخابات البلدية والحصول على 17 مقعداً في جميع محافظات المملكة، ومشاركتها أيضاً في انتخابات الأندية الأدبية. ولم تكن تلك القفزة محصورة في النطاق المحلي، بل والعالمي، لنجد أسماء رفعن اسم المملكة بفكرهن وعبقريتهن وإبداعهن ومساهمتهن في الدور الحضاري العالمي، أمثال: الدكتورة مشاعل آل سعود، في مجال الفضاء، الدكتورة سمر جابر الحمود في مجال الأورام، المهندسة ريما بنت سلطان، والدكتورة مشاعل ناصر الشميمري التي عيّنت كأول مهندسة تعمل في مجال تصميم الصواريخ بوكالة ناسا لدراسات الفضاء. وفي المجال العلمي الدكتورة فتون الصايغ والدكتورة حياة سندي، والدكتورة هويدا القثامي، والدكتور خولة الكريع، والدكتورة ثريا عبيد المرشحة لوكيل الأمين العام والمدير التنفيذي لصندوق الأممالمتحدة للسكان. كما تم لأول مرة عام 2017 تعيين البروفيسورة الدكتورة دلال نمنقاني عمادة كلية الطب في الطائف لتصبح أول عميدة في جامعة حكومية. وفي مجال الاقتصاد كان للمرأة دور في التمكين الوظيفي فقد تولت سارة السحيمي رئاسة مجلس «تداول»، وتم تعيين السيدة رانيا محمود نشار رئيساً تنفيذياً لمجموعة سامبا المالية. وفي مجال الأدب والإبداع برز الكثير من المبدعات متجاوزات حدود المحلية نحو أفق عربي ودولي منهن: الدكتورة فوزية أبو خالد والدكتورة أشجان هندي و الدكتورة بدرية البشر والأستاذة أميمة الخميس وغيرهن الكثير من المؤثّرات في تطور العقل الاجتماعي. وعلى المستوى السياسي تم تعيين الدكتورة فاطمة باعشن كمتحدثة رسمية للسفارة السعودية في واشنطن، وهو التحول الأول في تاريخ الدبلوماسية السعودية. كم تم تعيين السيدة «نشوى طاهر» قنصلاً فخرياً في هولندا، وكانت السيدة نشوى أول امرأة سعودية تترأس منتدى تجارياً في المملكة وهي عضو في العديد من إدارات الشركات التجارية، وفي 2013 تم اختيارها من مجلة فوربس الشرق الأوسط في المركز الثامن ضمن السيدات العربيات الأكثر تأثيراً في الشركات العائلية. كم تم تعيين الدكتورة «تماضر الرماح» نائبة لوزير العمل والشؤون الاجتماعية والتي ترأست وفد المملكة في أعمال الدورة الثانية والستين للجنة وضع المرأة في مقر الأممالمتحدة في 14 مارس 2018 في مدينة نيويورك. ولم يقتصر دور المرأة السعودية على تولي المناصب وترك بصمات فارقة في كافة المجالات التي خاضتها، بل لها دور بارز في عدد الابتكارات والاختراعات في المجالات المختلفة والتي استطاعت من خلالها أن تغزو الجامعات الأمريكية والأوروبية وتنزع مقعداً تتربع عليه بين منافسات عالمية. وقد رسخت رؤية 2030 هذا الاتجاه الذي تسير فيه المرأة من خلال دعم الرؤية لها بتمكين مشاركتها 30 % واستثمار قدراتها في كافة المجالات، وهو دعم واكبه تشريع بحق المرأة في العمل دون موافقة ولي الأمر لضمان استحقاقها الاقتصادي الذي يضمن لها استقلالها المادي ويحميها من أي استغلال. وفي عام 2018 حصلت المرأة أخيراً على حقها في قيادة السيارة، هذا الحق الذي كان جدلاً لسنوات طويلة. لقد كان قرار منح المرأة حقها في قيادة السيارة هو انتصار رمزي في أصله. انتصار لحرية المرأة وكرامتها، إذ كان منع قيادة المرأة للسيارة قائماً على الفتنة والغواية التي ستصيب المجتمع إذا قادت المرأة السيارة وهذا الاعتقاد في مضمونه كان يحمل الشك في أخلاقيات المرأة وسلوكياتها. إن التحدي الذي خاضته المرأة السعودية لعشر سنوات يوضح لنا الفرق بين الصورتين؛ صورة المرأة ما قبل 2009 وصورة المرأة اليوم في 2019 . لكن ذلك التحدي لإيجاد مكان لها تحت الشمس والذي تبلور من خلال مجموعة من النساء السعوديات اللائي تحولن إلى رموز لحكاية كفاح المرأة ضد التطرف والرجعية، رموز نفتخر بهن وسيخلدهن التاريخ لم يكن سهلاً في مجتمع يملك خصائص المجتمع السعودي، لكن طموحها وتحديها كان أقوى من عقل الرجعية وخطاب التخلف. فتحية لكل امرأة سعودية سعت ولا تزال تسعى حتى تحقق لها مكاناً تحت الشمس.