بما هو أمتع من السيرة.. وأعمق من «رصد» ترجمة الحياة.. وأرحب فضاء من الرواية.. وأعذب من اجتماع المقامة في مداد على صفحات الأيام، عندما تنساب ذاتاً.. وتحكي ذواتاً.. في مشاهد أدق من «القص».. وفصول مسرحية لم يحجبها ستار الزمن.. وتأني عقود «نابغة» في الإدارة.. والإرادة.. والتاريخ.. والإعلام.. والفكر.. والثقافة.. لتصطف إلى جانب أصدقاء «المشورة»، الذين أفلحوا في إقناع بطل هذه (الرواية السيرية)، التي انسابت دونما مقدمات.. وتناغمت مسيرتها عبر الزمان.. وأبنية المكان.. مكتملة «الحبكة»، محكمة السرد.. هكذا جاءت.. أو هكذا كان يتوقع أن تروى سيرة الدكتور عبد الرحمن الصالح الشبيلي، التي «رواها»، بقلمه، التي صدرت مؤخراً في طبعة أولى 2018م، في سبع وأربعين وأربع مئة صفحة، بعنوان: «مشيناها.. حكايات ذات»، عبر ثمانية (مداخل)، جاء أولها عن (الصنفر)، بوصفه رمزاً لمرحلة، وبوصفه دلالة لحجم التحولات، فيما جاءت العزيزية ثانياً، تلاها مدخل عنوانه: بين جامعتين، فقسم عن الإعلام، ثم عن التعليم العالي، ومنه إلى (مجالس)، بوصفه ثالث المداخل الذي استعرض خلاله الشبيلي عدة مجالس جاءت على النحو التالي: المجلس الأعلى للإعلام، مجلس الشورى، مجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر، مجلس إدارة مؤسسة «الجزيرة» الصحفية؛ لينتقل الكاتب إلى المدخل السابع من أقسام إصداره الذي جعله ل(التوثيق)، الذي تناول خلاله أيضاً، سيرة السفير محمد الحمد الشبيلي، ومنها إلى ثامن مدخل سيرته، الذي جعله الراوي ل»ذاتيات»، تضمنت الموضوعات التالية: الوسام، حديث الشرايين، التطوع، فرنسا، (الشورحّالة)، وصولاً إلى كشاف عام، الذي أتبعه المؤلف بملحق أشبه ما يكون، ب(محطات سيرية مصورة)، بمنزلة لافتات وومضات من سيرة علمية.. ومسيرة عملية.. لم تعرف غير العطاء عملاً.. والريادة منهجاً.. والتميز إنتاجاً.. والفرادة منتجاً بين الكتابة الصحفية عبر صحية (الجزيرة)، ومن خلال التأليف، إِذ تضمن ملحق الصور (أزاهير) أغلفة مؤلفات الشبيلي التي بلغت (55) مؤلفاً. *** يقول الشبيلي: لم ينجذب صاحبنا لفكرة كتابة ترجمة ذاتية، وظل يقف موقف المتحفظ أمام دعوات الحديث عن ذكرياته فضلاً عن تدوينها، لعدم اقتناعه بالمبدأ من ناحية، وليقينه بأن بضاعته في هذه الحياة متواضعة ليس في استحضارها قيمة تؤهل للرواية، وهي لا تقارن بتجارب كبار، ولا تتماهى مع تجارب مبدعين، ونهج باستمرار على كتمان مواقفها الحساسة وعدم البوح بها؛ كانت ترده مع كل مؤلف يصدره دعوات محبين بأن الأوان قد حان لمثلها، وصار البعض يقول: اكتبها واتركها للزمن، كناية عن أن المعنى بها صار يسبح في خريف العمر، وقد لا يكون له من الذاكرة ما يعين، وأنه «يقف على عتبة دنياه ليستقبل أجل الله»، كما قال الشيخ الشعراوي؛ إن ما قدمه من إسهام ثقافي لا يكفي مسوغاً لها، لا سيما أن في مخيلته بقية لمشروع لم يكتمل بعد، ويستغرب اكتظاظ معارض الكتب بسير غير ناضجة للعيد من المستعجلين! فالسير الذاتية أمانة تدوين وضمير ومسؤولية وتوثيق. الشبيلي.. بمداد النابغة! لم يكن الشبيلي ملوماً، ولا أصدقاؤه -أيضاً - فلقد أرادت له الخطى أن يسير إلى (خيمة النابغة)، بقلم راوٍ، وصوت شاعر، ومدون حكمة، في أبعد ما يكون الوصف تقرباً لإطراء الذات، وأصدق ما يكون الواقع أول شهود العيان، إِذ يقول الشبيلي في سياق إرهاصات فكرة تدوين سيرته: تجاوز (صاحبكم) الأربعين دون أن يلج في عالم الكتابة، وعندما بدأ عام 1992م، يخوض غمار التوثيق والتأليف، صار يسابق الزمن وكأنه في عجلة من أمره! يشعر أن للوقت قيمة إِنسانية، وأن في عهدته واجباً لا بد أن ينجزه، متأسفاً على ما فات من سنين قبل اكتشاف ضالته، وجد أن الانشغال بالتوثيق هو أمتع ما ينتقل به المرء من صخب الوظيفة إلى حياة ذهنية هادئة منتجة، واكتشف في عالم البحث عالماً شيقاً من ناحية، وسياحية تسد فراغاً في المشهد الثقافي من ناحية أخرى، ومع الأسف أنه لم يتوقع في باكر عمره أن هذا ما يخبئه له المستقبل، وإلا لكان استفاد من الرواية الشفوية من والديه، وممن أحاط بهم من الأقارب والزملاء والرؤساء.. الذين ذهبوا ولم تدون تفاصيل حياتهم ومعلوماتهم!. ليته تقاعد مبكراً! وسرد الراوي عن إرهاصات الكتابة قوله: بدأت غير طامع في شهرة ولا ساعياً لمجد، في تدوين سطور هذه الحكايات في مطلع رمضان المبارك عام 2017م، واختتمتها في نحو عام ونصف العام، دون أن أتبع فيها نموذجاً معيناً من التراجم، أو أحذو في تأليفها سيرة أحد ممن سبقني، واستهليتها برمز تراثي (الصنقر) الذي يذكر بالمكان والتاريخ والبيئة، لنشأة لم يكن فيها فرصة تسلي أو فائض زمن، إلا وظّفتها في عمل مرادف، فقد اعتدت أن يضيق بي بالفراغ، وأن استثمر بواكير الأيام وساعاتها الضائعة، وأن اجعل قيمة التقاعد تنافس ما قبلها، حتى صار البعض يقول: «ليته تقاعد من زمن..!». بعيداً.. عن الجفاف! وعن أجواء الكتابة قال أبو طلال: انسابت هذه الحكايات من الذاكرة، دون وساطة من محرر يحوّل الحديث إلى نص مكتوب، أو طرف يطرح السؤال ويدون الجواب، وكان يدرك تعزيز المعلومة بالوثائق المساندة، لكنه فضل الخروج بهذه الحكايات عن طابع الجفاف العلمي، والهوامش الصارفة للنظر، وآثر إضفاء السلاسة والعفوية على مقروئيتها، وكان يتمنى أن تخرج في شكل رواية، لكنه يفتقر إلى العناصر والأدوات الفنية لكتابتها؛ حيث استقرت عن ثمانية مداخل، حاولت فقراتها تصوير مرابع النشأة كما عاشها، وبضعة شواهد واقعية عاصرها في الصغر، ومؤثرات تركت بصمتها في تكوين جيله، وعلامات من بيئة الحياة المعاصرة في وسط الجزيرة العربية تزامنت مع اكتشاف النفط وتصديره، مما أدرك كهول الجيل بعضه، وحصّ الجانبين الإعلامي والثقافي في مسيرته بالحجم الذي يناسب مقروئيتها المأمولة، وما أقل ما ذكر! وأكثر ما نسي وأصاب فصولها من خطأ وتصحيف! الراوي باتجاه الهدف! وعن (غائيات)، هذه الحكايات قال الشبيلي: المرجو ألا تكون الصفحات وهي تنداح بالذكريات، وقعت في غير قصد في حديث عن النفس، أو انزلقت في ثناء عليها، أو بتقرير أحكام مجحفة على الغير، أو ارتكبت محذوراً ينافي الشيم بحديث لا يليق، في شأن له سابق صلة به، إِذ يدون نفثات من ذكرياته على بساطتهأ بهدف ربط ما عاصره من أماكن وشخصيات وأحداث، ويعود بها إلى الوراء وفق الممكن من نسق الزمن، ويسميها -بعيداً عن التنظير - ب»حكايات ذات»، كي تلائم مضمونها ولا يطول النفس في سطورها، مستعرضاً أبرز ما مرّ به في محطات حياته الخمس: الدراسة (15 عاماً)؛ الإعلام (14 عاماً)؛ التعليم العالي (17 عاماً)؛ مجلس الشورى (12 عاماً)؛ النشاط الثقافي الاجتماعي (12عاماً) حتى تاريخه؛ فإنه يعتذر عما قد يرد في معلوماتهم من خطأ، وفي استذكار الأسماء والتواريخ من استقصاء اجتاحته عوامل التعرية ووهن الذاكرة، وتعاقب السنين! والمؤمل أن تسد هذه الذكريات غرضها دون مغالاة أو ترميم، وأن يجد النشء في مضمونها فائدة مضافة. على عتبات الرواية! ومضى الشبيلي في روايته قائلاً: لقد دأب في معظم إصداراته ومحاضراته، على استشارة من يركن إلى رأيهم، فكانت هذه الحكايات أولى بطلب مشورة، تفضل بها الإخوة: الدكتور عبد العزيز بن علي النعيم، والدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي، والأستاذ عبد الرحمن العبد المحسن الصالح، والدكتور عبدالله بن عبد الرحمن الحيدري، الذين أضفوا -محتواها وعنوانها - فكراً نقدياً سديداً، كانت في مسيس حاجة للظفر به منهم؛ فلم تكن هذه الذكريات كل ما يمكن سرده، فيما يقدم من صفحات، فهناك مواقف سياسية أو إعلامية عدة لم تشملها الرواية، لأن الإفصاح عن تفاصيلها كان مما سيؤدي لا محالة إلى التصريح بأسماء وأسرار تتعلق بالغير، لا يحمد كشفها؛ فمن من حق القارئ أن يتوقع من راوي هذه الذكريات تفاصيل أحداث عاش طرفاً منها، كظرف انتقال الحكم من الملك سعود إلى الملك فيصل 1964م، وتجاذبات الإعلام مع مصر في إثر مشكلة اليمن 1962م، وتداعيات الحرب العربية الإسرائيلية 1967م، واستشهاد الملك فيصل 1975م، وتأثير دخول الإذاعة والتلفزيون في مجتمع متنوع الأطياف بين المحافظة والانفتاح، وتشخيص ظاهرة ضعف الاحتراف الإعلامي، ونمو مؤسسات الإعلام الأهلية، وبروز الإعلام الجديد، واقتران الثقافة مع الإعلام في وزارة واحدة، ثم الوالد يسجل تواريخ الأسرة في دفاتره، لكن الصغير لم يجد اسمه بينها، والله أعلم! وهكذا مشيناها.. وأضاف الراوي أنه عاش طفولته في سوق «المعثم»، الذي لم يتبق له أثر حالياً، في منزل طيني صغير، كان جزءاً من بيت جده ناصر، وسط أسرة مستورة، تغالب الحال بالتعفف وعزة النفس، لا يماثلها سوى بضعة بيوت من العائلة، يستبعد المجتمع المحيط وجود هذا المستوى فيها حين ينظر إلى ظاهر حالها من خلال وجهائها من كبار موظفي الحكومة، ومن رموزها الذين كونوا ثروتهم في ولاية البصرة، ومع ذلك أثمرت عصامية الفروع المتعففة بتفوق ملحوظ؛ وإذا كان خط الكفاف في الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي، لا يقاس بمؤشر معين كما هو عليه الأمر الآن، فإنه يدرك من نظهر أفراد أسرة كريمة متوسطة الحال، اعتادوا ومنهم صاحبنا المشي (حفاة) في الشتاء والقيظ، ولبسوا من تفصيل (أمهاتهم)، ثياب القماش الخشن «الخام»، وانتعلوا أحذية «الزرابيل»، المحلية المصنوعة من جلد البعير ووبره، لتقيهم صقيع البرد ووخز الشوك، ثم تحسنت أمورهم نسبياً، ولبسوا الشباشب «الزنوبة»، من صنع خارجي، وتمكن البعض من شراء النعل المصنوع من حلود البقر والغنم بأيدي الخرازين (المحليين)، مما يسمى في أوساط شباب اليوم «الزبيري»، مع أنه معروف منذ القدم في إقليمي نجد والأحساء وغيرهما، وربما انتقل مع من نزح إلى الزبير وتطور نقشه هناك.. هكذا بدأت إيقاع الحكايات المتناغمة بين «إيقاعي»، الزمان والمكان، في سرد أول ما يلفت (البيان) فيه، توثيق عبدالرحمن الصالح الشبيلي سيرته، بضمير «الغائب»، الذي أرتأه -أيضاً - من قبيل تمجيد الذات!