ظننت في البداية أن مواجده ستتقاطر على تحفة الأندلس في قصر الحمراء، لكنني سرعان ما أدركت وهمي. فهو يسجل "دفاتر التدوين"، وهذا هو الكراس الثالث، ولا بد من ان يرتبط بالصبا، يمسك بجذوره الأولى، يرديها كلمات حانية مستقصية، تمعن في استحضار الحواف الرجراجة في طيات ذاكرته. ينحت بضمير المتكلم نصبه الذاتي في هذا السرد، فيخلق موضوع تأمله حتى ليبدو أكثر توهجاً من الواقع الملموس. هل يصف قريته الأولى في صعيد مصر "جهينة" وما فيها من أخبار تشكل مشاعره وهواجسه وتوهماته فيطرح على خريطتها ما علق بذاكرته، أم هو يبتكرها مرة ثانية برسومه السردية؟ تبرز منها امرأة، تسري اليه عبر أسطح البيوت المتلاصقة، تجسد سحر الأنوثة الذي سيصبح وشماً في مخيلته، ولوناً مشعاً في مآقيه. انه ينتقل بها من التجسيد الى ما يشبه التجريد، تتحول الحمراء، وهذا هو اسمها، لتصبح مطلق المرأة التي يستنشق عبيرها في كل الملامح، ويلتمس حضورها في مختلف الاماكن، ليقيس على أنحائها كلّ الأبعاد في ما بعد. انها دائماً قريبة من لا وعيه "في مكان لا يمكنني تحديده او تعيينه. تنظرني، تتابعني، لذلك يجب الالتزام. هذا ما صرت اليه في ما بعد عند وقوعي اسير هوى أو بدء جذبتي، مهما ابتعدت او قربت. عرفت من يقمن في ديار نائية، بلاد غير بلادي، وغير ذلك اذا مشيت في مدينتي، او حتى داخل بيتي، أراعي ولا أفرط، احرص، لا يبدو مني الا ما اتصور أنه سيلفت نظرها. ولا أبدي إلا ما ارضى عنه. ثمة من ترقبني من موضع ما، من توقيت معلوم، تقتفيان اثري وترقبان كل ما يصدر عني. الى الحمراء تمتّ اصولي كافة، اذ تداعبني اخفض صوتي، اذ تولى عني أتعلق بها، كأن الحضور كله مرتبط بها. اقتفي أثرها عند صعودها السلم، واذ تمتنع يبدأ هجاجي !. أوشك على البكاء لأبقيها لحظات في مداري. لكنني لا أفصح، ألزم. استدعيها بمخيلتي، يصير حضورها عندي أقوى، وشاغلي بها امتن. وهذا ايضاً ما غلب علي فيما تلا ذلك. بالطبع لم أدرك ذلك إلا بعد انقضاء مراحل، والمرور بأطوار. واذا كانت هذه الكتابة التي تحاول الامساك بقاع البئر في ذاكرة التكوين الهارب تخص الذات، من دون ان تعبر عتبة السرد في منطقة الشعر المنحوت، فإن ذلك يعود في تقديري الى متابعة مظاهر حركية الزمن في المراحل المختلفة ووصف فعله في الحلول، وأثره في التحولات، مع الجنوح كما لاحظنا الى شيء من المبالغة الغنائية في تثبيت الصورة المتحركة بطبيعتها. كأن الراوي يفيد من معطيات علم نفس الطفولة وما يتناصر من أدبياتها في الكتابة المعاصرة، ليقوم بصوغ نموذجه عن "الأنثى الأم" وهي تلك التي تلخص الجنس وتتوزع تفاريق على أعضائه، تمثل "المعيار" الذي يحكم مقاييسه وأنماطه، وتكمن خلف الأشواق المستطيرة منه، وفي اللحظة التي يجنح صوته فيها لينزلق الى ضمير المثنى المؤنث بدلاً من ضمير المفرد في جملتين تشذان عما سبقهما ولحقهما. يبدو أن هذه الأم قد ازدوجت مع قرينتها - الزوجة - في فعل المراقبة المطارد، إذ "تقتفيان أثري وترقبان كلّ ما يصدر عني" حتى تصبح فلتات القلم كما هو متداول أشد دلالة على مكامن الشعور من أنساق الكلام المنظم، وتظل الكتابة في هذا المنظور حفراً في ثنيات الذاكرة المختبئة، بغية استقصاء ما يرشح فيها من وعاء العمر بأكمله. قد تؤدي ملاحظة العلائق الخفية بين الملامح والحركات الى جلاء الجهد الفائق الذي يبذله المبدع كي ينظم حبات الذكرى في عقد مؤتلف. وقد عمد الى كلمة تمثل سر الرابطة بين اجزاء هذا الدفتر ووجوهه المختلفة وهي كلمة "رشحة" بدلالتها المائية الحسية التي تشير الى تسرب الاثر عبر طبقات مختلفة، حتى لينضج في غيره في شكل مادي ملموس. ومن خلال "الرشحات" يربط الراوي بين شخصيات متباعدة في الزمان والمكان من تجليات الأنثى في وعيه، ولكن يظل الرابط الذي لا افتعال فيه هو ذات المبدع التي تصنع تلك العلائق. فكل منهن حفرت خطاً في ذاكرته ودفعته الى أن يتساءل عن قوانين هذه الذاكرة وكيف تعمل، كيف تحفظ وتنسى وتستدعي وتسقط من حسابها بعض العناصر. وهو تساؤل يجعل الرواية حفرية مدهشة في كوامن اللاشعور، عميقة في تحليلها أصداء الألوان والحركات وأوضاع الأجسام وأشكال الأرواح، لنماذج بشرية نسائية أمسكت عملية التدوين بأبرز مقوماتها وصنعت طرفاً حميماً منه. انهن نساء مكتوبات خلقن على الورق، لا يضعف من حياتهن الفانية ما يتراءى من جهد مصنوع يتكلف الربط بينهن عبر الرشحات ولفتات المواقف، لأن المنبع الذي ينبثق منه هو ذاته منبع الشعر الغنائي في قلب الفنان المبدع. قطع الزوائد جمال الغيطاني صاحب اسلوب سردي مميز، له ملامحه المحدودة ولغته الخاصة، نمت لديه تقنيات فنية في القص، مبعثها الغالب نوع من التدخل الارادي لهندسة السرد واخضاعه لنظام ابداعي متسق. وهذا يتطلب كبح جماح الاسترسال والترهل، وتحقيق درجة قصوى من التركيز والاقتصاد. وهو يمنح في "دفاتر التكوين" خصوصية من الذاكرة التي يشعلها التخيل ويضيئها بما يحتمل ان تكون قد اختزنته من خبرات! إذ ليس الواقع الذي حدث هو المحك الحقيقي لصدق الكتابة، وانما الحقيقة المتماسكة والكذب المسوّى الذي تنشئه عملية التدوين. يعترف الغيطاني بتلقائية مدهشة، تذكرك بأسلوب شيوخه الاقدمين وببعض مظاهر هذه الصنعة الفنية. يروي في الفصل الثاني مثلاً قصته مع فتاة اخرى تعلق بها في صباه من بعد، او لنقل قصة الراوي لئلا نقع في مشكلة اختلاط السيرة الذاتية بالكتابة السردية التي لم تخضع لميثاق السيرة المعروف من التصريح بالاسم والتوقيع والتوثيق والشهادة على النفس. يقول عن تلك "الآنية": "لعقود متتالية ظننت نادية مصدراً، لكنني ادرك من خلال هذا التسيطر انها ليست الا رشحة منها أي من الحمراء وترديداً، ابدأ بالتساؤل: هل هفوت نحوها وملت، لأنها كانت آتية دائماً، تدخل مجال بصري عند قدومها من داخل أو خارج، تماماً مثل ظهور الحمراء فوق السطح؟ هل حدد بزوغ الحمراء أول شرط عندي تحقيق ميلي؟ ان تأتي: لا يمكنني القطع، لاح ذلك أثناء تدويني". لكن التقنية البارزة في هذا الجهد الواعي للإمساك عن الثرثرة والاقتصاد في التركيز، انه كثيراً ما يلجم قلمه عن الاسترسال، مرجئاً اشباع ما يشير اليه الى مناسبة اخرى. فهو في هذه الصفحات مثلاً يتطرق الى أهمية الاسم في تحديد ملامح الشخصية ونوعية وعينا بها قائلاً: "أعرف القوة الكامنة في الاسم، كيف يمنح صفات معينة لصاحبه كلما تردد، فهذا يعني البقاء في صورة ما حتى بعد تبدد الكينونة الحافظة. ولي في ما يتصل بالاسم تدوين طويل مفصل، ليس هنا مجاله، غير أنني أؤكد ما أدركته". وعندما يعمد القارئ الى فك شفرة ضمير المتكلم، أو إحالته الى مرجعه في جملة "ولي في ما يتصل بالاسم" فإنه لن يكتفي بالاحالة الى الراوي كما يفعل الناقد، بل سيحيل الضمير فوراً الى المؤلف ذاته، ليعرف له جهده في ضبط ايقاع القص لئلا يستطرد الى ما يخرجه عن عالم الرواية المحددة التي ينصب خيمتها. وكذلك يقول الكاتب بعد صفحات قليلة "مكانها مؤطر بزمانه، ولأن وقتها ولى فقد راحت مواضعها كلها، على رغم أن الحارة باقية، والبيت الذي رفعت وجهها صوب شرفاته ونادت. الزمن يوّلي، والمكان ايضاً، وهذا أمر دقيق ربما فصّلت الحديث عنه ولكن في غير هذا الموضع". شهوة الاسترسال في القص هي اخطر ما يهدد الفنان الحريص على التكثيف وضبط بؤرة العمل الصافية، قبل رصد الصورة المتخيلة من دون غبن أو ضباب. وهذا ما دأب الكاتب على التصريح به وطرد نداءات الغواية، وهو يماثل ما نلاحظه في الشعر ايضاً من ضرورة غض النظر عن غواية الحوريات الزائفات وتمييز النداءات الصادقة في عمليات التمثيل والتخييل. على أن ما يفعله الكاتب هنا من البوح بصنيعه يضيف ملمحاً جديداً الى هذه التقنية ويحولها وعداً بالاشباع في السياق الملائم، وهو وعد يتكرر كثيراً في هذا التدوين بخاصة. السيرة الإبداعية تقدم "دفاتر التدوين" في شكل عام، و"رشحات الحمراء" بصفة خاصة نموذجاً متراوحاً في الكتابة السردية، لا يقع في شكل قاطع وصريح في منطقة السيرة الذاتية، لأنه لا يتضمن شروط عقدها، ولا يبعد عنها كثيراً في صناعته لمتخيل غير خالص، مما يمكن أن نطلق عليه "سيرة إبداعية". وهذه تعني الاتكاء على أبرز عناصر التجربة الذاتية واستقطارها، ومزجها بما يحلو للكاتب من توهمات وأحداث تلعب فيها الرغبة دوراً لا يحتاج الى توثيق. اي أنها سيرة متخيلة، مبدعة في أشكال من الرؤى الملتبسة لما كان يمكن أن يحدث في الواقع، بغض النظر عن حرفيته، إذ يكتفي بالاستجابة لحالة الكاتب عند التدوين فحسب، ويعتمد على ما تمده به الذاكرة وتسعفه طاقة التخيل على تصوره عن ذاته وماضيه. يبث جمال الغيطاني اشارات عدة تؤكد هذا الطابع في روايته الجديدة، فهو يحدد حيناً عمر الراوي بدقة توازي التاريخ الحقيقي لميلاده عام 1945، وصدور الكتاب الاول له قبيل شتاء عام 1969، واشتغاله بفن السجاد، والتحاقه بكلية الفنون التطبيقية من دون ان يتم دراسته. ولو صدقت هذه المعلومة لأضافت اليّ شيئاً لم أكن أعرفه عنه، وعمله في احدى جمعيات فنون النسيج اليدوي. كما اننا نجده يحيل احياناً الى ما كتبه في رواياته وقصصه، مثل قوله: "تلك لور التي سردت امرها في كتاب "التجليات" فليطالعه من يرغب" وقوله: "ظللت اشعر بالامتنان لصاحبي ولسجاد بخارى، ولمهارته التي دفعت والدته الى طلب ثلاثة أبسطة مثل المنسوجة في بخارى العتيقة التي بلغتها في عام سبعة وثمانين، وجرى لي فيها ما دونته في رسالتي عن الصبابة والوجد". وكذلك يشير الى أحداث دوّنها في قصص قصيرة نشرت فعلاً، واخرى لم ينشرها خشية العواقب، مثل ما جرى له مع ورقاء النجدية التي لم يعر لها مثيلاً، فهي "قامطة، حاضنة، مستعصية، منيعة الزوال، تلك لها تدوين يطول شرحه لا تسمح ظروف النشر الآن بإشهاره على الخلق، اودعته مكاناً قصياً علّه يرى النور يوماً. حتى بعد ان اقضي، عندما يعي قومي وتنزاح عنهم مغاليق". والواقع ان هذا اللون من السير الابداعية اشد تلاؤماً مع طبيعة الحياة الثقافية العربية وشروطها الصارمة، من الاعترافات العلنية التي لا يزال المشرق العربي في منأى عن تقدير دورها في اثراء الوعي الادبي والفني بالحياة الخصبة للمبدعين والتنوع المدهش لمستوياتها. فما زال "الستر" هو قيمة أغلى عندنا من "الصدق". ولكن ربما كان أبرز ما يتبقى في ذاكرة القارئ من هذه الاختراقات التي يحسبها الراوي شجاعة جريئة تتميز بالحرية، هو أن معظم ما أفاض في شرحه منها كان مجرد توهمات مراهقة لم تتجاوز نطاق رغباته المكبوتة. وبنبرة اعتراف تخلو من المرارة والزهو معاً فصل احياناً بعض مظاهر خيباته مع النساء اللائي صددن عنه، وأرجع ذلك بطبيعة الأمر الى اختلاف الثقافات والحساسيات. وعندما أجمل في سطور قليلة ما يعتز به من غزوات ناجحة خضع لمقتضيات الاعراف السائدة. هنا يتعين علينا ان نشير الى أمرين هما على قدر كبير من الاهمية النقدية، اولهما: اعتبار الاعمال الابداعية ذاتها هي المتن الاساسي في التدوين الادبي، والاشارات الرابطة بينها وبين وقائع السير واخبار الكتاب مجرد هوامش شارحة مضيئة، ليست لها قيمة فنية تتجاوز حدود اهميتها البيوغرافية في تاريخ الادب، ويظل تماسك المتخيل وتكويره لمنطقه الداخلي هما مناط التركيز في القراءة التحليلية. وثانيهما: ان تلك الاعمال المستبطنة المعمقة، فيما تحاول النفاذ الى اقطاره في جذور التجارب الجمالية للمبدعين في الواقع المعاش، تضيء مساحات عريضة من النصوص. لكن تظل المنطقة التي ما زال كتابنا يحجمون عن تفصيل مشاهدها وذكرياتها هي قصة تخليق الاعمال الكبرى وما أحاط بها من ملابسات وشواغل باطنية وخارجية. من هنا فإني مشوق الى "الدفتر الرابع" من "تدوينات" جمال الغيطاني، لعله يشرح فيه بالتفصيل حكاية رواياته وقصة علاقته بالكتابة التراثية وتاريخ لغته وطقوسه في الكتابة وأسرار مواجده ومواجعه، وحلاوة مباهجه عند كل انجاز من أعماله الجميلة. * ناقد وأكاديمي مصري.