توقفنا في الحلقة الماضية عند أول اقتباس جميل للرسالة (اللسانيات والتكامل الثقافي المتوازن في تعليم العربية لسانا أول) للأستاذ الدكتور محمد صلاح الدين الشريف، من إصدارات مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية. ونستكمل ما بدأناه سابقًا، فنبدأ بسرد النقاط مع الاقتباسات والتعليق عليها: - يقول ص10: « قد لا ترضي هذه الرسالة من يرتقب منا الحط من سيبويه والخليل، وقد لا ترضي الرسالة من يرتقب منا التبشير بالنظريات اللسانية الكبرى... وقد لا ترضي آخرين وآخرين من المتزمتين والمتهورين الواحلين جميعًا في وحل التقابل السخيف بين شيء سمي بالعامية وشيء سمي بالفصيح. ولكننا نأمل أن ترضي المتمتع بهبة العقل النسبي...» أي تشويه للآخرين بعد هذا التوصيف والعبارات المستخدمة!! وأي تهيئة نفسية للمستمع والمتلقي عمومًا! وماذا يتوقع من مخالفه؟! وكيف نتوقع أن يتعامل صاحب الرسالة مع من يختلف معه؟ وهل نرغب أن يكون هذا التعامل هو المسيطر في الجدل والحراك العلمي؟! فهذه ضربة استباقية تحذيرية للمتلقي ألا يتلقى هذه الرسالة بغير الرضا؛ وإلا فهو من الأصناف الموسومة بهذا القدر من الأوصاف المستهجنة! - ص12: «ولا وجه لهذه الثنائية التقابلية السخيفة بين ما يسمى إديولوجيّا بالفصحى والعامية» ولا أعلم هل بعض المحتفين به لدينا ممن يرون هذه الثنائية (السخيفة)!! - ص15: «وفي العموم، حاولنا في هذا العمل أن نرسل إلى الجمهور القارئ رسالة ذات أهداف نذكر منها ما يلي: -تنبيه المعنيين إلى أن للسانيات في تعليم العربية مجالات متعددة صالحة للتوظيف...» ما الجديد في ذلك؟ مما لا يعرفه طلاب كليات التربية واللغة العربية وأساتذتها. - ص16: «فما الفائدة من وضع الرأس في الرمل كالنعامة، والواقع أن أطرافًا داخلية وخارجية تعمل على نشر أفكار لا تعين على المحافظة على المشترك اللساني، وتستعمل في نشرها ... وتشجيع بعض التيارات السياسية على الشيء وضده لتقوية جدلية سياسية معينة قابلة للتوجيه» نحن إذن في ساحة حرب مع أنفسنا وإخواننا وربما بعض حكوماتنا!!! - ص23: «ومن السذاجة المفرطة...» فغير ما يراه يتصف بسذاجة ومفرطة أيضًا! - ص24: «لا تهدف إشارتنا إلى الغزو اللغوي إلى الانغلاق دون الألسنة الأخرى، بل تنبه إلى وجوب الفصل وعدم الخلط بين الانفتاح والخذلان...» هل هناك داع لهذه لألفاظ؟ وإذا كان ثمة داع هل هناك من يدعو إلى الانفتاح أو إلى الخذلان؟ - ص25: «...بل يساعدنا أيضًا على التوجس العقلي القائم على الافتراض والاختبار والريبة المنهجية المبررة بتحليل المعطيات والتكهن بنتائجها دون الحكم على النوايا.» جميل؛ لكن هل لا يوجد حكم على النوايا في الرسالة؟ الحكم متروك للقارئ الكريم. - ص25 في حاشية 3: «من الغريب مثلاً أن تتوجه هيئة رسمية، أو مؤسسة خاصة، بالمحتوى نفسه مكتوبًا بلسان أجنبي وبدارجة محلية مخصوصة...» فحتى الهيئات الرسمية تتصرف بشكل يدعو للغرابة دون البحث في مبرراتهم. - ص27: «ولا يشك أي دارس نزيه...» لماذا التقسيم إلى نزيه وغيره في أمر بحثي قابل للأخذ والرد؟ - ص30: «كنا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات نتطلع بكثير من الاستغراب لانتشار الدارجات المصرية في الكثير من الدروس الجامعية والمدرسية من الإسكندرية إلى أسوان، حتى بلغنا انتشار الاستعمال الدارج حتى في المملكة السعودية [هكذا بدون العربية وأعتقد أنه خطأ]. وذلك في فترة كان فيها استعمال الدارجة في القسم محجرًا بتونس قد يعرض المعلم إلى العقاب والتأديب» هل من العلمية أن أقارن وضعًا وواقعًا (كما في مصر والسعودية) بنظام مكتوب (كما في تونس)؟! ثم استدرك وعقّب بالقول: «لم يعد الأمر هكذا بالمدارس التونسية، ولم يعد الالتزام التام بالصيغة اللسانية الرسمية، على ما يبدو، سنة متبعة في أغلب البدان العربية. بل تتردد في بعض الأركان الصحافية شائعات كثيرة عن تصريحات مسؤولين في المغرب والمشرق تشرّع لهذا الاستعمال، وتتلاقى مع انتشار مدارس لبعثات تنص مناهجها على تعليم عربية دارجة محلية [هل لدى الملقي مثال على ذلك؟]، ومع حرص واضح في بعض القنوات الخاصة على استعمال الدارجات في نشرات الأخبار [مثل؟] وفي دبلجة أفلام تاريخية ودينية كانت تجد مواضيعها بالفصحى رواجًا كبيرًا عند جمهور كانت نسبة الأمية فيه أكبر بكثير من الآن» هذا جميل؛ لكن ختمه بما يشبه الحكم على النوايا مباشرة «أهذا اتجاه عفوي مؤذن بتغير لساني مجاوز لإرادات الأفراد والجماعات؟ أم توجهات منظمة مقصودة؟» - ص31: « ذلك أن الأطراف المقابلة تستغل منذ عقود غموض المفاهيم في الألفاظ المستعملة، من صنف:{لغة، لهجة، فصحى، عامية، دارجة،...إلخ}، لتكوين حالة نفسية اجتماعية مزدرية للذات أو مضخمة لها، ولا تتلاءم في الحالتين مع الوضع الجغرافي العربي التام.» هل بعد هذا التصنيف يمكن أن نعيش بسلام لغوي اجتماعي بحثي في منطقتنا؟! - ص32: «فما يلحق باللسان العربي من ضرر تصوري... ضرر لم يقدر حق قدره حتى عند بعض الدارسين المختصين.» هكذا يُصور الدارسون المختصون الآخرون المختلفون لدى بعض اللغويين. - ص39: «يقوم هذا التمييز أساسًا على توظيف اللسانيات الاجتماعية والنفسية، ويتضمن أمرين بينت لنا التجربة ضرورة التشديد عليهما لمواجهة ما لا نعتبره في فائدة العربية...» أتساءل هل هذا التوظيف للملقي أم لغيره؟ في رأيي أن ما تحدث به غير جديد. على أي حال لا تنسى الرسالة التعريض لتقول في الصفحة نفسها: «إلا أن الكثيرين [هكذا الكثيرون!! فطوق النجاة مع هذه الرسالة على ما يبدو]، كما أشرنا أعلاه، يخلطون بين الدارجة والعامية بسبب عقدي تقييمي، مجمله القسمة بين الخاصة والعامة.» هل بعد هذا التخويف من الكثيرين يوجد بصيص أمل؟ تذكر الرسالة في الحاشية في الصفحة نفسها: «تنتشر في مختلف الوسائط الشائعة عبارات تسمي العربية بتسميات مغالطة... إيهامًا [أليست هذه تهما؟] أو توهما» إذن نحن بين حالة جهل أو خبث نوايا!! هل هذا التوجه مفيد للعربية أو للعلم عمومًا؟ - ص40: «فهو أولاً وقبل كل شيء يقطع الطريق في وجه من يتعمد الخلط بين التنوع اللهجي الذي رسمنا ملامحه والتنوع اللساني داخل القطر الواحد، للدعوة إلى إجراءات تعليمية ذات خلفيات إديولوجية وأغراض سياسية واستراتيجية، لا تراعي الشعور الحدسي العام...» هكذا يرمى المخالف!! ثم يذهب في الحاشية ص41 شارحًا: «أما الاستراتيجية، فتخطيط راق لا يتوفر عند جميع من يهتمون بالألسنة [تقييم دائم للآخرين]...» ثم يذكر بعد ذلك: «وهو ثانيًا يقطع الطريق في وجه من يفتح الباب لتنزيل اللسان الأجنبي منزلة اللسان الوطني، لنشر مناهج تعليمية تحقق على مدى طويل سياسات انفصالية تخدم مصالح الألسنة الاستعمارية المهيمنة على الاقتصاد العالمي، كمحاولة البعض إقناع غير المتكلمين بالعربية لسانًا أول بأن منزلة العربية إليهم كمنزلة الفرنسية أو الأنكليزية أو أدنى منهما حضاريًا وأقل فائدة.» أتساءل ما حجم الاحتقان الذي يخرج به القارئ أو السامع للرسالة!! - وفي الفصل الثالث: ص48: «والملاحظ في الجامعات العربية أن أصحاب القرار لا يشجعون على تكوين مختصين حقيقيين في اللسانيات...» أليست هذه من التهم الجزاف والتعميمات المرفوضة؟! سأتوقف هنا وسنكمل في الحلقة التالية ما بدأناه. ** ** د. صالح بن فهد العصيمي - أستاذ مشارك في التربية واللغويات التطبيقية