بعضُ عبارات الفقهاء النّجديّين تأريخٌ لمحيطهم الاجتماعي والسياسي والدّيني، قال الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099ه): (كُلُّ نجدٍ قُرى)( 1)، ومناسبة قوله فقهيّاً: مسألةُ ضيافةِ الضّيف، وصورتها: أنّ القادم إلى البلدة من غير أهلها ينزل فيها ليلةً أو أكثر، ويحتاج إلى ما تُحفظ به نفسه من مطعمٍ ومشربٍ ونحوه؛ فذكر الفقهاء وجوبَ ما تُحفظ به النّفس، واعتبروا أحوال البلدان المتفاوتة، وفرّقوا بين القرية والمصر( 2). كان علماء نجد يوجبون قِرى الضّيف على النّجديّين(3 )، ولهذا كان أهل القرية الواحدة يتقاسمون ما يُصرف على الضّيف، وينصّون عليه في عقودهم، وهذا هو سبب تكرّر مُصطلح (كُلف الضّيف) في وثائق النّجديّين. وكُلفُ الضّيف التي يتقاسمها النّجديّون تدخل فقهيّاً في مسائل النوائب العامّة التي يتشارك فيها أهل القرية الواحدة أو رفقة السّفر، وتُذكر النوائب العامّة في كتب الفقه مع المظالم المشتركة(4 )، ومنها: ما يُصرف للقوَى المتغلّبة بين القُرى؛ لأنّ أمير القرية لا يتعدّى نفوذه سورها، وكُلّ قريةٍ عليها أميرٌ مُستقلّ، قال الشيخ أحمد بن عطوة: (سألت شيخنا عن شيوخ بلدنا بعد أن عرّفته حالهم، فأجاب: حكمهم كغيرهم من السلاطين في سائر الأوطان)أه( 5)، وبالتالي فإنّه إذا اعتدى على القرية مُعتدٍ، وطلب أموالاً على التّجّار أو على كلّ نفس من أهل القرية؛ دفع أهل القرية ما يكفّ الاعتداء ويردّ مفسدة إتلاف النفوس والأموال( 6)، ويدخل في ذلك حالُ النّجديّين قبل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، قال الأستاذ حمد الجاسر عن تلك الفترة: (يلجأ أهل القُرى لحماية زروعهم ومراتع مواشيهم إلى إعطاء رئيس أحد القبائل المجاورة لهم طعاماً وكساءً ليكون لهم أخاً، وإخاوة)أه( 7)، و(الإخاوة أو الخاوة) كلمة عامّيّة نجديّة تدلّ على انفلات الأمن وحصول التفرّق والخوف، وكانت تُستعملُ في نجد قبل دعوة الشيخ المُجدّد وحماية الإمام محمد بن سعود لها، وقبل اجتماع البلدان على إمامٍ ودعوة، ثمّ منّ الله تعالى بالنّعمة العُظمى، وقطع الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود (ت: 1218ه) تلكم الخاوة ( 8)، ثمّ ظهرت واختفت، وضعفت وقويت بحسب قوّة نفوذ الإمام، ثمّ منّ الله تعالى بدولة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وبنيه أدام الله أيامها، وانقطعت أخبار الفوضى والتفرّق والخوف. ومن صور النّائبةِ العامّة: إذا خرج بعضُ أهل القرية منها لأجل تجارةٍ أو حجٍّ؛ احتاجوا إلى جمع ما يدفع عنهم التعدّي، ولهذا ظهرت عندهم الخفارة، وهي تُشبه الخاوة، قال الشيخ اسماعيل بن رميح (1010ه) مُستنكراً بعضَ فتاوى فقهاء زمانه: (رأيت من يُفتي بأنّ أُخوّة الظّالم الفاجر حلالٌ لا تحرم، أعاذنا الله من أهل هذه الطّريقة، وسمعت من يقول: إنّ خفارة الإخوان التي تأخذها البوادي من أهل القرى لا تحرم)أه(9 )، وقال الشيخ عبد الله بن ذهلان: (الظّاهر أنّ ما يطلب السلطان والاخوان من البلدان؛ يجوز جمعه ودفعه لارتكاب أدنى المفسدتين، ويتحرّى فيه العدل)أه( 10). كلّ ما تقدّم من تحليل عبارات الفقهاء يدلّ على خوف عامّ يُغذّيه تفرّقٌ وفوضى، ويؤكّد ذلك أنّ الفقهاء يُرتّبون على الخوف أحكاماً؛ كنفقة الزّوجة إذا امتنعت من السّفر مع زوجها خوفاً من الطّريق، قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: (ما بين قُرى نجدٍ مخوفٌ، فلو خافت الزوجة إذا سافرت مع زوجها، فلها عليه النّفقة مع عدم السّفر؛ للعُذر، سواء كان الخوف على النّفس أو المال أو هما، والظاهر أنّ ما بين قرى نجد هذا الزمن مخوف إلا مع جَنَبٍ ونحوه)أه(11 )، و(الجَنَبُ) اسمٌ لمرافقي المتزوّج إذا خرجوا معه من قريته إلى أُخرى لأجل الزواج، وأمّا إذا كان الزوجان من قرية واحدة، فإن المرافقين للزّوج يُقال لهم (مِسايير)( 12). إنّ استخراج المضامين التاريخيّة من فتاوى فقهاء القرنين العاشر والحادي عشر الهجريّين يُكسب المؤرّخ فوائد، منها: الإسناد إلى مصدر متقدّم؛ كالإسناد إلى ابن عطوة (948ه) الذي استفدنا منه وصف تفرّق البلدان النّجديّة واستقلال كلّ أمير بلد بنفسه، والإسناد إلى ابن ذهلان (1099ه) الذي استفدنا منه وصف حالة الخوف السّائدة. وإذا قرأنا فتاوى الفقهاء لاستخراج مضامين تاريخ الحياة الاجتماعيّة تحديداً؛ وجدناها مصدراً مُتميّزاً، فإنّ ما انطوت عليه الكلمات العامّيّة يُمكن الزيادة عليه شيئاً يسيراً من مصادر أُخرى، ثمّ سبكُهُ ليظهر معنى تاريخيّ لا يكمل لولا فتوى الفقيه المرتكزة على واقع. ذكر الفقهاء النّجديّون كلماتٍ دالّةٍ على العُملات النّقديّة المُستعملة: (الجديدة، والأحمر، ومطبّقة، وطويلة، ومحمّديّة، وقبرصي ملبّس، وشاهيّة)، وذكروا أجزاء البئر وما يتّصل به ممّا يدلّ على ارتكاز حياتهم اليوميّة على الآبار والمياه، مثل: (الأنباع، والدوامغ، ودبّاب، ومنحاة، ولزا، والغروب، والسّريح، والرّشا، والدّرّاجة، والمعاويد، والسواني، والقرو، ونثيلة القليب، والدلو)، وذكروا ما يدلّ على حشراتٍ اشتهرت عند النّجديّين، مثل:(السّحبلّة، والسّعودة)، وذكروا غير ذلك ممّا يُمكن جمعه وضمّه لغيره من المصادر لاستخراج عاداتٍ معاشيّة ينبغي أن تُستهدف بالجمع من قبل الدّارسين. إنّ فتاوى الفقهاء النّجديّين تبدو للمؤرّخ كصائر باب ينظر من خلاله إلى أنماط وعادات النّجديّين، ولا نقصد بتخصيص نجد والحنابلة الحصر والقصر، وإنّما خشينا طول المقام والمقال. اللهم اغفر للفقهاء وارحمهم وعافهم واعف عنهم، واغفر لآبائنا وأجدادنا واجمعنا بهم في جنّات النّعيم. ... ... ... هوامش: (1 ) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (2/90). (2 ) يُنظر الحجّاوي (الإقناع) (4/314)، وقال البهوتي (كشاف القناع) (6/202). (3 ) نقله أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يُنظر (الدرر السنية) (7/472) ومحمد بن ابراهيم (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن ابراهيم) (12/206)، ويُنظر إقرار الشيخين عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف عمل النّجديّين واعتباره (الدرر السنية) (6/339-340). (4 ) يُنظر: منصور البهوتي (كشّاف القناع) (3/541)، و(مطالب أولي النُّهى) (2/54) و(3/569-570)، ومحمد بن ابراهيم (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن ابراهيم) (12/206). (5 ) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (2/194). (6 ) يُنظر ما قاله ابن تيمية ونقله الحنابلة عنه: البهوتي (مطالب أولي النُّهى) (2/54). (7 ) باختصار (سوانح الذّكريات) (1/30). (8 ) يُنظر: عبد الله بن محمد البسّام (تحفة المشتاق) ص251. (9 ) (مجموع ابن رميح) ضمن كتاب (الأعلاق) ص122، 124. (10 ) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (1/402). (11 ) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (2/36). (12 ) يُنظر: عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشّعبيّة في نجد) ص120. ** **