للوثائق أهمية كبيرة في معرفة تاريخ القرى والبلدان والمجتمعات التي عاشت فيها بشكل خاص بخلاف التواريخ المدونة والتي تكتب في ظروف وأزمنة تشوبها عوامل العاطفة والعصبية من جهة وتذبذب الرواية وعدم معاصرة الحدث من جهة أخرى فهذه الصفات يصعب توفرها بل تستحيل في عالم (الوثائق) نظرا لكون الوثيقة تكتب بدواع وأسباب ترتبط بالحدث المباشر لها دون أن تدخل عليها أية عوامل تخل بها من حيث السبب والزمن وكذلك الأشخاص والمواد المرتبطة بها والداعية لكتابة الوثيقة أثناء حدوث السبب. ولا تخلو كل وثيقة من هذه الخاصية إلا أن تكون (مزورة) أو أن يكون كاتبها قد حجبت عنه الثقة لكذب حصل منه أو عبث فحينها تتعرض الوثائق التي كتبها للتحقيق والتثبت من صحتها وهذه الحالة تعتبر قليلة ونادرة الحدوث في (البيئة النجدية ) التي حرصت على توكيل أمر الكتابة منذ القدم لعلماء وكتاب مجمع على نزاهتهم وصدقهم. ومن خلال هذه الدراسة نستطلع وثيقة في بالغ الأهمية والغرابة والقدم جاءت بحدث وسبب أصبح جزءا من تاريخ مجتمع وقرية مضى عليه أكثر من ثلاثة قرون وموضوعها له أهمية خاصة لتعلقه بالعلم والعلماء والكتب والمكتبات في زمن كتابة الوثيقة والتي تشح المصادر المعاصرة له بمثله . وصف الوثيقة : كتبت الوثيقة بخط نسخي واضح ومقروء وبلغ مسطرتها أثنين وعشرين سطراً جاءت بمقاس 19 سم طولا و 6 سم عرضاً يتخلل بعض جوانبها الضعف وجاءت بحالة جيدة عموماً . وكتبت الوثيقة بالمداد الأسود. تاريخ ومكان كتابة الوثيقة : كتبت الوثيقة في سنة 1119ه أي قبل (307 سنوات) ثلاثمائة وسبع سنين. ومكان كتابتها في (حوطة سدير) قاعدة بلدان سدير قبل ظهور (المجمعة) والحوطة من قرى سدير القديمة ولها تاريخ حافل بالأحداث وبرز منها كثيراً من الأعلام والأسر العلمية مثل: آل منقور وآل منيف وآل نصرالله وآل منصور وغيرهم من الأسر الكريمة . كاتب الوثيقة : هو الشيخ العلامة أحمد بن محمد بن حمد بن حمد بن محمد المنقور من المناقير من بني سعد من تميم وقد وقف على سياق اسمه المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى (1270 1343ه) حيث قال في مجموعه (ص7) : وجدت بخط المنقور بيده يقول عن نفسه : أحمد بن محمد بن حمد بن حمد بن محمد المنقور . ولد في حوطة سدير بتاريخ 12/3/1067ه. ونشأ بها واخذ عن بعض العلماء في سدير ثم رحل إلى العارض وأخذ عن الشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (ت 1099ه) في الرياض والذي يعتبر ابرز مشايخه وكان يتردد عليه كثيرا ثم انه صار قاضيا في بلده حوطة سدير وأخذ عنه عدد كبير من طلبة العلم من أهل زمنه وأصبح المرجع الأول في منطقته للإفتاء وكتابة الوثائق الشرعية . كما أن الشيخ أحمد قد رحل للحج أكثر من مرة إذ أشار هو في تاريخه بأنه حج عام 1091ه وعام 1092ه وعام 1093ه وعام 1096ه وهذا يدل على تقواه وزهده وأن حالته المادية ميسورة و حسنة. وله من المؤلفات: كتاب في التاريخ يعتبر من أهم وأقدم المصادر التاريخية في نجد (مطبوع) وكتاب في الفقه سماه : الفواكه العديدة (مطبوع) وكتاب في المناسك (مطبوع) وغيرها من المؤلفات . توفي رحمه الله في حوطه سدير يوم 6/5/1125ه وله من الأبناء: محمد ولد سنة 1092ه و إبراهيم والذي خلفه بالقضاء ولد سنة 1103ه وتوفي عام 1175ه و عبد الرحمن ولد سنة 1114ه وللشيخ عدة بنات، رحمهم الله جميعا. وتتميز هذه الوثيقة النادرة بوجود (ختم) الشيخ المنقور وهذا يعتبر في غاية الأهمية نظرا لقدم زمن الكاتب ومكانته العلمية ولقلة الوثائق التي بخطه في هذا العصر. أنظر ترجمة الشيخ أحمد المنقور في : علماء نجد للبسام 1/ 517 . وروضة الناظرين للقاضي 1/67 .ومقدمة تحقيق تاريخه للدكتور عبد العزيز الخويطر . وترجمته التي كتبها الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله - في أول مجموع المنقور المسمى ( الفواكه العديدة). موضوع الوثيقة : يتعلق موضوع الوثيقة في إقرار من الشيخ أحمد المنقور- رحمه الله - بأنه قد وكل عيسى ابن الشيخ عبد الرحمن بن عبيد في تأجير كتاب فقهي على الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبيد ( أخو الوكيل المذكور ) لمدة عشرين سنة وبمبلغ قدره ( أحمران جديدان ) وهذه من الحالات الجديدة والنادرة في موضوع الكتب والمكتبات الخاصة عند النجديين وقد أشار المنقور بأن الكتابين مؤكل عليهما من قبل أشخاص ورد ذكرهم في ورقه التوكيل الأصلية . الكتاب الوارد في الوثيقة : نصت هذه الوثيقة على كتاب شرح الإقناع بجزءيه الثاني والثالث . ومؤلف هذا الكتاب هو الشيخ العلامة الفقيه منصور البهوتي الحنبلي المتوفى عام 1051ه . وهذا الكتاب له شهرة واسعة عند علماء الحنابلة وهو مطبوع وشهرة المؤلف تغني عن ترجمته. العملة الواردة في الوثيقة : كان المبلغ الذي تم تأجير الجزءين به كما أشرنا (أحمرين جديدين) ومفردها : أحمر. وهي من العملات المتداولة في تلك الفترة والتي ضربتها وسكتها الدولة العثمانية. الأعلام الواردون في الوثيقة : أوردت هذه الوثيقة عدداً من الأعلام في ذلك العصر وهم : 1- أحمد بن محمد المنقور ( كاتب الوثيقة ) . 2- عيسى بن الشيخ عبد الرحمن بن عبيد . 3- الشيخ محمد بن عبد الرحمن ( بن عبيد ) . 4- الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن أحمد الملقب عبد ربه. وأسرة آل عبيد من الأسرة الكريمة في بلدة جلاجل إحدى بلدان منطقة سدير والتي انتقلوا إليها من المدينةالمنورة في القرن العاشر الهجري وبرز منهم عدد من العلماء والقضاة والكتاب في جلاجل وسدير والرياض والقصيم والزبير والكويت . وقد ذكر العلامة الشيخ عبد الله البسام ( ت 1423ه ) عدداً من علمائهم . وأن انتساب هذه الأسرة يعود إلى قبيلة الخزرج من الأنصار وذلك في كتابة علماء نجد خلال ثمانية قرون. . نص الوثيقة : (الحمد لله يقول كاتبه الفقير إلى عفو ربه القدير احمد بن محمد المنقور أني قد وكلت عيسى بن الشيخ عبد الرحمن بن عبيد على إجارة الجزئين الثاني والثالث من شرح الإقناع على أخيه الشيخ محمد بن عبد الرحمن عشرين سنة مبدأها دخول شهر المحرم من سنة تسعة عشر وميه وألف من الهجرة النبوية بأحمرين جديدين وقد فعل كما أمرته وأجرهن بالأجرة المذكورة المدة المذكورة وقد بلغني منه الأجرة المذكورة قال ذلك مخبراً به كاتبه المذكور والوكالة لي من الولي ومن الرشيد من مستحقي الكتابين المذكورين مذكور في ورقه غير هذه بخط الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن احمد الملقب عبد ربه وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم . الختم ) أهمية وفوائد الوثيقة : أتت هذه الوثيقة بكثير من الفوائد المهمة والتي يمكن تلخيصها وإجمالها عبر عدد من النقاط الرئيسة ومنها : 1 الوقوف على حالة من أحوال الكتب و المكتبات الخاصة في منطقة سدير خاصة ومنطقة نجد عامة في أوائل القرن الثاني عشر الهجري. 2 معرفة أثمان وأسعار الكتب والعملة المتداولة في تلك الفترة وأن الكتب كانت تؤجر على طلبة العلم ولمدة طويلة 3 التعريف ببعض الشخصيات العلمية المهتمة بالكتب وطلب العلم في ذلك العصر. 4 الوقوف على خط واضح للشيخ أحمد المنقور مذيل باسمه وتاريخ تحريره له وكذلك التعرف على شكل (ختمه) الخاص. 5 الإفادة بأن الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبيد وأخاه عيسى كانا من تلاميذ الشيخ المنقور وهذا لم يرد في المصادر التي ترجمت لعلماء نجد. 6- تحديد الشيخ المنقور للجزءين الثاني والثالث من شرح الإقناع قد يدل على أن هناك عقد إيجار سابقاً للجزء الأول من الشرح المذكور. 7 - الاستدلال على أهمية الكتب الفقهية المنتشرة في نجد والتي كان لها العناية من قبل علماء نجد مثل هذا الشرح. 8- دقة العبارات الواردة في هذه الوثيقة مما يدل على عناية الشيخ المنقور وأمانته الخاصة و إشاراته المتكررة على المدة الزمنية والأجرة المادية وأن الكتابين قد وكل عليهما . 9 - أشارت هذه الوثيقة بأن هناك ورقه أخرى غير هذه الوثيقة تفيد بتوكيل الشيخ المنقور على الجزئيين من شرح الإقناع وأن هذه الوكالة صادرة بخط الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن أحمد الملقب عبد ربه وبالاطلاع على ما بين أيدينا من وثائق هذه الأسرة الكريمة ( آل عبيد ) لم نقف عليها . 10- الإفادة عن نوع العملة الواردة و التي تمت عليها الإجارة وهى : الأحمرين الجديدين . وفي الختام اشكر الأستاذ عبد الله بن ناصر العبيد الذي تكرم وزودني بهذه الوثيقة وغيرها من وثائق أسرته الكريمة والتي بلاشك تعد من نوادر الوثائق في (سدير) خاصة وأنها تعود لأسرة علمية كبيرة برز منها عدة علماء وقضاة وكُتاب في (جلاجل) بشكل خاص ومنطقة سدير ونجد بشكل عام وذلك خلال خمسة قرون مضت، كما لا يفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان لأخي الوفي راشد بن محمد بن عساكر - حفظه الله - الذي كان أول من تعرف وعرّف بالأستاذ عبدالله العبيد والوثائق التي لديه وقام بفهرستها وترميمها وإدخالها في الحاسب الآلي ولديه بحث مقدم في احدى المجلات العلمية عن النوادر منها مع غيرها من وثائق المكتبات في نجد وكان فضلة بعد الله كبيرا علي وعلى غيري من الباحثين فجزاه الله خيرا وحفظه وأبقاه .