(3) تقودنا مداخل النصوص الشعرية وافتتاحياتها وبعض متونها، إلى ظاهرة لافتة في هذا الديوان وهي ما أسميها أيقونة التمركز حول (الذات الشاعرة)، واستدعاء (الأنا) المفرطة ثقة وفرحاً وتشيؤاً وربما غروراً ونرجسية. حيث نجد ذلك التمركز الذاتي عبر مدارات ثلاثة على النحو التالي: أولاً: الضمائر الدالة على (الأنا) و(الذات) وتفريعاتها النصية المشيرة إلى هذه (العلاماتية) المتشظية في كثير من نصوص الديوان، من مثل قوله: «بيني وبين الظل نافذة وباب أنا لم أعد قيثارة النائي ... وليس لي في الأرض متسع ... فأنا هلاميٌّ كعطر الورد ... وأنا الكتابة والكتاب» أنا المتيم بالسجايا النرجسيَّة بالهوى باللهو بالقول المؤسس للقصيدة ..... أناي خرافة في الجملة الأولى نوازعي سرب من الكلمات وحدي مغرم بالعزف لا يغريني اللحن الموازي» نص الناي يغري بالحزن ص ص 7-10 وقوله: «أنا ابن هذا الوقت في عينيَّ متكأ وفيكفيَّ أغنية .... منفاي آخر ما تبقى في وثيقة رحلتي .... فأنا ابن هذا الوقت نص وثيقة للمنقى «تغريبة» ص ص 25-28 وقوله: «سأكون وحدي في الحياة ولا أبالي لست مكترثاً بما ينتابني من لوعة الأشواق ولا أكون سواي ... سأظل وحدي في الحياة ولن أبالي بالحياة» نص سأظل وحدي في الحياة ص ص 67-68 في هذه المقتبسات تتوالد (الأنا) المتشظية، و(الذات) الشاعرة لتؤكد كينونتها النرجسيَّة ولواعجها النفسية، وبواعثها العاطفية مداً وجزراً في تموضعاتها الذهنية. ثانياً: الخطابات الآمرة أو الناهية للذات المستكنة تحت صرامة العقل الكتابي والشعري. ونجد هذه الفاعلية الشعرية في قوله: «اُكتب كما لم تستطع من قبل لا تترك حديثاً عابراً لكلمات دع بين الحروف فوارق المعنى وعزز من حضورك في الكتابة ... لا تستخدم التأويل... وخل الساعة الأولى لمن يهوى... ... خذ ما شق من أحلامك.... ولا تترك مكانك دون أن تلقى وداعاً لائقا....» نص تأويل ما لم يكتب ص ص 11-16 وقوله: «تعلَّل إذا ما انكشفت على سلم الوقت لاترتبك مثل غصن السفرجل كن صادقاً.... كن ليناً ولا تكترث بالذي لا تراه ... أفض في شجونك حتى ترق الهواجس ... دع صوتك الغض يرف المسافات....» نص نشيد الغياب ص ص 45-48 وقوله: «أطب المقام ولا تسارع في الهجين من الكلام لعلني أجد المساحة في جلال الصمت .... أطب المقام دون رهبة ولا تمعن في العتاب ... وكن جميلاً... وأنيقاً.. ولا تبعثر أسماء النساء.....» نص وصايا ص ص 55-57 ومن هذه المقتبسات نلاحظ الخطاب للذات الشاعرة، الذات لكاتبة في حواريتها مع فعل الشعر والكتابة التي من خلالها تتشيأ الذات وتسمو في تعاليها حيث الشعر هو حالة التجلي والكينونة المبتغاة. ثالثاً: الذات الجمعية/ الجماعية، الدالة على الانخراط في المجموع الإنساني مشاعراً وتواصلاً واندماجاً أو التعبير عنهم بلسان الفرد/ الكل. نجد ذلك في قوله: «أنا ابن هذا الوقت ..... في البرد أدفأ بالغناء وأسجد في فناء الآخر المنسي يكلؤني نشيد المبعدين عن الغواية ... قلت خذ ما ينبغي من رذاذ الماء واترك بعضه للطير حتى ينجلى قيظ الظهيرة عن رواحلنا فلا يشد وثاقنا.... ولا يقايضنا سوى....» نص تغريبة ص ص 25-28 وقوله: «هي القرية الأم نمكث في حضنها ما نشاء ونرحل عنها بلا رغبة في الرحيل .... نمضي إلى حالنا لا نخاف... نمضي ثقالاً إلى قبلة لا خيارات فيها...» نص نسوة في المدينة 29-43 وقوله: «تأتين لا قابضات على الجمر لامؤنسات لأقرانكن وتشهدن أن نبوءة أرواحكن استفاضت فأرخت عليكن قدسية في المكان» نص مطر هارب في الرمال ص ص 69-72 وقوله: «الرؤية ابتدأت ولم أكتب سوى سطرين من نص الرواية. بعض أسماء الرفاق المحبطين ... جندي هزيل لا يعي ما اللغز في الإعلان .... ....» «نص تأويل ما لم يكتب ص ص 11-16 هنا تتجلى الذات الجمعية، كونها تتشكل عبر الآخر الحقيقي، والآخر الضمني، إحساساً وصيرورة، وتداعيات يعبر عنها بالكلمة الشعرية ودلالتها ومعانيها. ### (4) ولعل آخر المدارات التي تؤقِفُنا عليها هذه (التجربة القرائية) هي مدارات (العنونة) التي تتخذ جمالياتها الشعرية من كونها تحمل نصوصيتها الموازية والكامنة داخل المتن الشعري في أغلب نصوص الديوان البالغة أربعة عشر نصاً/ قصيدة (12-2)، وهو ما سنلاحظه في الثلاثية التالية: أولاً: ولنبدأ الرحلة (العنوانية) من صفحة الغلاف حيث نجد العنوان الرئيس للديوان هو: تفاصيل الفراغ، وإذا بحثنا عن تشظيات هذه الجملة العنوانية/ البوابة الرئيسة للديوان وجدناها في ثلاث نصوص يقول في نص (الناي يغري بالحزن ص ص 7-10): «في الطور أحجية تؤنبني وقول ثابت في دفتر المجهول لا أحصي خطايا المتعبين ولن أبالغ في تفاصيل الوشاية، ......» ويقول في نص (محاكاة ص ص 59-66): «ربما الآن توقظُ فيك الحياةَ التي لم تنل من تفاصيلها غير حلم الطفولة تحتل فيك مساحة ضوءٍ من الوعد .........» ويقول في نص (مطر هارب في الرمال ص ص 69-72) «سلام عليكنَّ.. ما قبَّل البدر وجه النهار وما دثَّر الليل أسراره بالفراغ ......» في هذه المقتبسات نجد (التفاصيل) مرتبطة ب(الوشاية) وب(الحياة) وب(أحلام الطفولة)، أما (الفراغ) فنجده مرتبطًا ب(الليل)، إذاً نحن أمام زمنين: زمن محدود/ قصير (الليل) وزمن ممتد/ طويل (الحياة) وعبر هذه الدائرة تتحرك تلك التفاصيل حيث يؤكدها الشاعر في إهدائه الشخصي عندما كتب لي في صدر الديوان: «البهي كالحياة أخي المثقف والمبدع والخلوق د. يوسف العارف هي تفاصيل حياة أهديها إليك محبتي 20/7/2018م» وهذا يعني أن الشاعر يتعامل مع هذه المجموعة الشعرية/ الديوان - ذهنياً - في مدار (الوعي) أو (اللاوعي) على أنها تفاصيل حياة بكل ما يعيشه الشاعر من (أنا) متفردة - متباهية - طامحة. أو (ذات) متألمة- متشظية - وفي حالة تحول دائم!! ولكنها ليست الحياة العمرية/ الزمنية ولكنها حياة الكلمة الشاعرة، والذات الشاعرة - إذا أحسنَّا التأويل -!! ثانياً: وإذا توغلنا داخل المتن الشعري، ألفينا العناوين ذات بعدين: بعد داخلي/ أي تنبثق من داخل النصوص الشعرية وأشرنا آنفاً إلى أنها تمثل 12 من مجموع نصوص الديوان ال(14 نصاً). وبعد خارجي/ حيث يستنبتها الشاعر من فضاءات ذهنية خارج السياق الشعري، وإحصائياً تمثل (2 فقط من المجموع) بنسبة أقل مما هي في المتن الداخلي!! فأما العناوين المختارة من داخل النصوص الشعرية فنجدها عبر الإحصاء التالي النَّص والعنوان العبارة الدَّالة الناي يغري بالحزن ص ص 7 - 19 «وعزف نايٍ موقن بالحزن «وحدي مغرم بالعزف» «موالي بكاء الناي» تأويل ما لم يكتب ص ص 11-16 أكتب كما لم تستطع من قبل» «لا تستخدم التأويل دون تقصد النجوى» البعد يسرف في السراب ص ص 17-19 «البعد يسرف في السراب» «فلم أعد أحنو لما يجتاحني من رغبة التكوين» تاج الكلام ص ص 21-24 «ونرسم للحب تاج الكلام» وثيقة للمنفى (تغريبة) ص ص 25-28 «وفي المقام أرتل التغريبة الأولى» «كل مفازة باب إلى تغريبة أخرى» «منفاي آخر ما تبقى في وثيقة رحلتي» «منفاي الأخير ملامحي» «في تغريبتي الأولى سجلي...» «وفي تغريبتي الأخرى مزاري...» نسوة في المدينة ص ص 29-43 «»علَّ بعضاً من النسوة المستفيضات في عتبات المدينة....» «كثير نساء المدينة...» «كان نساء المدينة يحملن خبز الصباح...» «وعن نسوة لم يجدن كساء الشتاء» نشيد الغياب ص ص 45-48 «وعلل غيابك عمن تحبُّ...» «لا تستلذ الغياب إذا ما استوت بين أضلاعنا جمرة البعد...» «رتل علينا نشيد الرعاة...» وصايا ص ص 55-57 «تقسو فتمنحني ال وصاية عاشقاً» «لا يستلذ البعد أو يتعجل» «ودعهم يمضوا دونما وصاية» سأظل وحدي في الحياة ص ص 67-68 «سأكون وحدي في الحياة...» «سأكون وحدي إن أردت...» «سأظل وحدي في الحياة...» ولن أبالي بالحياة». مطر هارب في الرمال ص ص 69-72 « لكُنَّ الذي كان.. وجهي الذي جاء..... وعيني التي....» «مطر هارب في الرمال» زوايا الظل ص ص 73-76 «آن أن يترك الآن رائحة في زوايا المكان الأثير لها...» «وترى ظله صورة للملاك» «السماء التي ظللتها عن القيظ..» حجازية ص ص 77-79 «حجازية قالت البحر صورة وجهي» «حجازية قالت الريح صوتي النديُّ المشاكس» «حجازية يستعيذ النهار بها من جفاف القرى» «حجازية يسكن الحب في روحها» أما العناوين الخارجة عن السياق الشعري، فلم نجدها سوى في النصين: (مقامات) ص ص 49-50، و(محاكاة) ص ص 59-66 وفي هذا إشارة دالة على أن الشاعر - بوعيه بالقيمة الشعرية التي يمثلها العنوان للنص - جعل أغلب عناوين نصوصه تنبثق من المتن الشعري على اعتبار أن جماليات العنونة تكمن في توجيه القارئ إلى ما يحمله النَّص من فنيات شعرية وقولية، لفظية وحسيَّة وما يمثله العنوان من علاقات تضافرية وتوليدية للقيم الجمالية داخل النَّص الشعري. وبالتأكيد فإن العنوانات التي اختارها الشاعر من داخل نصوصه تعطينا القدرة على اعتبارها مفاتيح إجرائية للتعامل النقدي مع النصوص في بعديها الدلالي والرمزي، ويتأكد ذلك من خلال النماذج النصيَّة التي أدرجناها في الإحصائية السابقة. # # # خاتمة: وهكذا كانت (التجربة القرائية) مثيرة، وهادفة، ومكتنزة بكثير من الفضاءات الدلالية التي أوقفتنا عليها النوص الشعرية في هذا الديوان (الخامس) من مجمل إنجازات الشاعر أحمد قران الزهراني الشعرية، متمنين له مزيداً من التجديد والعطاء والإنتاج!! والحمد لله رب العالمين. ** **