«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليل حاوي شاعر الموت والبعث . تأسيس رمزي للغة وتجربة منبثقة من الذات والحضارة
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2000

} يعكف الناقد ايليا حاوي على جمع الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الراحل خليل حاوي انطلاقاً من ديوانه الذي بات مفقوداً ومن القصائد الكثيرة التي لم يضمّها الديوان فظلّت طيّ النسيان.
كيف يُقرأ اليوم خليل حاوي بعد قرابة 18 عاماً على رحيله؟ هنا قراءة في تجربته.
يتجاوز مفهوم الشعرية المعاصرة، مجموعة المحددات التقنية المشكلة لما كان يسمى بأدبية الأدب، إذ يحتضن ظواهر اللغة وما وراءها، مما يرتبط بأوضاع الخطاب واستراتيجياته. الأمر الذي يفتح منافذ جديدة، تستوعب أفق النص الشامل بكل تفاعلاته الحيوية، ويشير خصوصاً الى عصبه الرئيس، الماثل في وجهته ومبتغاه. ذلك أن تحديد هذه الوجهة يسمح لنا بالادراك الصحيح لنسيج القول ووظيفته معاً، كما يبرز العناصر المهيمنة عليه ويفسر علاقاتها المختلفة، مما يتيح الفرصة لرصد التحولات الكبرى للنصوص، مع الإمساك بمدارها الصلب، وتحديد تراتب أبنيتها الكلية في تجلياتها الكثيرة.
وقد كان خليل حاوي 1919 - 1982م صارماً مع نفسه في تحديد هذه الاستراتيجية منذ وقت مبكر، بغض النظر عن تموجات السيرة الشعرية، وتقلبات الايديولوجيا في مراحل النضج المختلفة، شرع في رؤية عالمه مرتباً بحسب أنساق مضبوطة بمقاييس البناءين، وكما يقول أخوه الناقد الذواقة "إيليا" مستثيراً خاصية الأسرة وبلدة "الشوير" الشهيرة بالبنائين المهرة!
"كانت قصائده، وخصوصاً في "الناي والريح" وما بعده بنيانية، رائعة البناء، وكانت منتظمة على إيقاع متنام وبنائي قلما عرفته التجارب الشعرية قبلاً. و"فؤاد البستاني" يقول إن البناء الشعري هو خاصة من خصائص الشعر اللبناني عامة، لأن اللبنانيين عرفوا البناء منذ أقدم العصور، وكانت لهم هندستهم، وهذه البنائية تسللت الى شعرهم، وهو يجد في مطولات خليل مطران وقصائد غلواء وأفاعي الفردوس فضيلة من فضائل البنائية اللبنانية مع خليل حاوي ص 86".
وفي ما بين البنائية المعمارية والبنيوية الشعرية تبرز وشائج مادية ومعنوية عميقة، كما تتجلى مفارقات طريفة في المصطلح النقدي، لكن ما نشير اليه باستراتيجية الخطاب عند خليل حاوي يتجاوز خواص المعمار في القصيدة والديوان، ويبدأ منذ "نهر الرماد" قبل "الناي والريح"، وينتبه للدوائر النصية التي يتحرك فيها وروابطها العميقة، وهي دوائر دلالية ووجودية، بلورها الشاعر في كلمات مقطرة عند تقديمه قصيدة "بعد الجليد" في قوله: إنها "تعبر عن معاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمة ذات وحضارة وظاهرة كونية، إفادة من أسطورة تموز وما ترمز اليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجفاف". لكن هذا البعث لا يدور في فلك قطري ضيق، ولا عرقي مغلق، بل يتصل بالنسغ القومي الموّار منذ بداية القرن العشرين، ويستمد خصوبته المتجددة من شهوة الأرض للبذار، من نبض الدم المحرور في اللحم. ويهدف إلى نفض عفن التاريخ: "فلنعان من جحيم النار/ ما يمنحنا البعث اليقينا / أمماً تنفض عنها عفن التاريخ/ واللعنة، والغيب الحزينا / تنفض الأمس الذي حجّر / عينيها يواقيتا بلا ضوء ونار / وبحيرات من الملح البوار / ثم تحيا حرة خضراء تزهو وتصلّي / لصدى الصبح المطلّ / من ضفاف "الكنج" "للأردن" "للنيل" / تصلي وتعيد/ يا إله الخصب، يا تموز، يا شمس الحصيد".
ومع أن الفلسفة الوجودية التي أبحر فيها خليل حاوي كانت تعفي الشعر من مسؤولية الالتزام برسالة محددة، احتراماً لخصوصيته في الخلق الرمزي للغة، إلا أن التجربة الشخصية والوطنية التي انصهر بها الشاعر بقوة عارمة جعلت نجم هذه الرسالة الحيوية المنبثقة من الذات والحضارة والمنداحة الى المحيط الكوني، القطب الهادي لإبداعه، والبوصلة الموجهة لحركته، والملمح الأول العريض لاستراتيجية خطابه مهما كانت تحولاته.
تكوير وهندسة
تخضع عملية الخلق الفني عند خليل حاوي لقصدية متميزة، هندسة محسوبة. فكيان القصيدة لديه يتجسد في حركات منتظمة، يحددها نسق كلي متضافر، بالاعتماد على قدر واضح من الشكل الحسي للأصوات والأقوال، والتكوير البارز للمواقف والأحوال، والترتيب المتسق لأشكال التعبير، حيث تتحول حرارة التجربة التي يؤديها شعراً الى طاقة موظفة لصوغ الجمل وترتيب المقاطع وتحديد المنظور. عمليات التكرار الداخلي تلعب دور "الربط المادي" للحزم اللغوية، والتنمية الموصولة للإيقاع الناظم، والتضفير المتقن للوحدات الجزئية، بما يؤدي الى بروز الكيان المادي للقصيدة مجسداً برهافة تقنية بالغة روحها التعبيري المنغوم، ورؤيتها الكونية المتماسكة، حتى ليبدو تدوير العبارة الشعرية أشبه بعملية صب القوالب التشكيلية.
ولعل قصيدة "الناي والريح" ذاتها، التي طالما هزتنا في الصبا بإشاراتها الدرامية لصراع الترهب الفكري في المغترب الأدبي مع غوايات الحياة الساخنة، ومناوشات الذاكرة المفعمة بشهوة التحقق، لعل هذه القصيدة ان تعدّ نموذجاً لهذه العجينة الطرية التي يمتزج فيها الفكر بمواد الحياة الأولية المحتدمة إذ يقول: "بيني وبين الباب أقلام ومحبرة / صدى متأفف، / كُومٌ من الورق العتيقْ/ همّ العبور / وخطوة أو خطوتان / الى يقين الباب، ثم الى الطريق".
هذا هو الخيار في شكله الظاهري، بين الكتب والطريق، لكن بنيته العميقة تكشف عن جدلية الخلق الفني مع الالتحام المباشر بالحياة، فعزلة الصومعة اقتراب أشد من الحياة عن طريق الصمت النافذ والتكوير البارع لكائنات الحقيقة، حيث تصبح العبارة رحماً ولوداً مفعماً بالشهوة المصفاة للابداع: "وحدي مع البدوية السمراء / كنت مع العبارة / في الرمل كنت أخوض عتمته وناره / شرب المرارات الثقال / بلا مرارة".
الطابع الحسّي لمفردات البناء التصويري من رمل ونار، والبداهة الواضحة في تحديد المسافة بخطوة أو خطوتين للولوج الى يقين الباب الخارجي في حركة محددة من الباطن الى الظاهر يجعل السمة الشعرية المهيمنة على خطابه تتمثل في صلابة معطيات الوجود لديه، وبعدها عن الهشاشة الرخوة والهلامية المضببة، هنا يتجلى نزوع خليل حاوي الى التجسيد المعماري للأطر الفكرية، ولعل طول معاناة الشاعر في صباه للأعمال اليدوية وقوة ممارساته للمهارات التشكيلية دفعاه الى استخدام المواد المعجمية النبيلة المصقولة في تكويناتها اللغوية حتى تستوي في سبيكة صافية.
وربما كانت صلابة معطيات التشكيل هي التي تضمن لمتواليات الجمل الشعرية لديه ثقلها المادي والدلالي، وكثافتها المجازية الفائقة، مما يجعلها تستقر في قاع الذاكرة لدى القراء مهما طال بهم العهد على تلقيها الأول.
وعندما نطالع قصيدته المطولة "السندباد في رحلته الثامنة" تدهشنا قدرته على اقامة صرح هذا التجسيد المعماري لأشد الأشياء هلامية وهشاشة، للرؤيا المتخلقة من الغيبوبة في بطن التاريخ وتأويل معطياته: "يحتلّ عينيّ رواق شمخت / أضلاعه، وانعقدت عقد/ زنود تبتنيه، تبتني الملحمة/ ومن غنى تربتنا تستنبت/ البلور والرخام./ تكدس البلور من رؤيا عيون/ ضوّأت واحترقت في حلك الظلام/ وفرخت أعمدة الرخام../ رؤيا يقين العين واللمس/ وليست خبراً يحدو به الرواة/ ../ ما كان لي أن أحتفي/ بالشمس لو لم أركم تغتسلون/ الصبح في النيل وفي الأردن والفرات / من دمغة الخطيئة".
لا تقتصر دلالة هذا الاستبدال بالرؤيا أعمدة الرخام البيضاء المعمدة في أنهار العروبة الكبرى على فكرة الصلابة والجمال، بل تمتد في حفريات الوجدان القومي الى بعث التراث القديم المشترك، بكل بهائه الحضاري وحضوره الأبدي من ناحية، واستنبات نظائره في ضمير المستقبل الذي لا بد له من تفريخ أعمدة مماثلة للحضارة الناضرة غير المتكلسة من ناحية أخرى، أي أن فكرة زمان البعث تمتزج بمكانه وتعزز مكانته، فلا يصبح الأمر مجرد الفرح بصروح مادية صلبة تجعل الرؤيا يقيناً مزدوجاً لكل من العين واللمس، بل يصبح متفجراً بماء الحياة المنعش للوجود المتنامي في مجلاه المتجدد الخلاق على مرّ الأجيال والعصور.
ولعل النتيجة المترتبة على هذه الخاصية المادية في معجم خليل حاوي هي تمتع شعريته بدرجة عالية من "قابلية الفهم" والمقروئية كما يقول علماء الإعلام، على رغم دقة مكونات الأبنية الدلالية لديه ورهافة الحالات التي يعبر عنها على مستوى الدوائر الثلاث المتداخلة لديه من الذات الى الحضارة القومية وانتهاء بالبعد الكوني الشامل.
صور نحوية
لعل من أبرز منجزات النقد الحداثي للشعر توسيع مفهوم الصورة، حيث لا تقتصر على الاشارة الى الجانب التخييلي المجسد للمجردات بطرائق حسية تمثيلية، بل تشمل شبكة من الاجراءات التي تمتد من توظيف العناصر السردية الحركية، الى تنمية أنماط من الصور النحوية، وهي صور تعكس - كما كان يقول علماء اللغة - كفايتنا في بناء الواقع بحسب نماذج صورية متنوعة، الى جانب الصور الصوتية الايقاعية.
والجديد في هذا المفهوم المركب للصورة، لا يتمثل في مجرد اختلاف التسميات ونقلها من سردية ونحوية وموسيقية الى مجال الصورة، بل في ما يؤدي اليه من ملء الفراغات الشعرية في نسيجها الحميم، واعتبار التشكيل اللغوي ذاته مفعماً بعناصر الشعرية، فقد كنا نلاحظ أن كثيراً من المقاطع الصافية تكاد تخلو من الصور التخييلية من دون أن تفقد كفايتها في التعبير المبدع، ذلك أنها تحفل في حقيقة الأمر بأشكال مرهفة من التماثل والتوازي والتوالد وتفعيل الإحساس بحركية اللغة، بما يعيد تشكيل الدلالة في علاقاتها النحوية على صور جديدة مفعمة بالفاعلية الجمالية. كما أن الأشكال النحوية في توافقاتها وتبادلاتها المختلفة تعتبر من أنشط وسائل تقسيم المقاطع في القصائد المطولة وتحديداً انتقالاتها السردية المتعددة، وتوجيه نسق الخطاب فيها، بالطريقة نفسها التي يعمل بها "المونتاج" السينمائي بين اللقطات في توليد الدلالات الجديدة.
ويحفل شعر خليل حاوي بشواهد كثيرة على هذه الهندسة الداخلية في تصميماته، غير أن قصيدته الفذة "لعازر 62" المكونة من سبعة عشر مقطعاً تطرح نموذجاً فائقاً لهذا التوظيف، ولكن لا يحار القارئ في توجيه دلالتها فيصدرها الشاعر بإشارات مكثفة من الكتاب المقدس والشرح الرمزي والأبيات الواردة فيها بما يجلو منطق خطابها النصي، يتوجه الى "لعازر" ذاته قائلاً: لئن كنت وجه المناضل الذي انهار في الأمس، فأنت الوجه الغالب على واقع جيل، بل واقع أجيال يبتلي فيها القوي الخير بالمحال فيتحول الى نقيضه، لكن الطريف في هذه القصيدة الرامزة لمحنة الأجيال الحضارية أنها تتبنى صوت الأنثى - زوجة لعازر - ابتداء من النشيد الرابع حتى تقول في السابع عشر: "الحواسّ الخمس فوّهات مجامر/ تشتهي طعم الدواهي والخراب/ تشتهي طعم دمى / طعم التراب/ ينطوي جسمي على جسمي/ ويلتفّ دوائر/ ثم ينحلّ لأجسام/ تُمحيها وتبنيها الظنون:/ في ضباب الحلم،/ جسم شاحب يطفو على نهر حزين/ جبهة يغسلها ظل شعاع/ ويوشي في جبال الليل/ أطراف الشراع..".
وللمقطوعة بقية أخرى تعبر عن جدلية "الموت في الحياة" التي يلخصها عنوان "جوع المجامر"، ويتألف نسيجها النحوي من عدد من الجمل الاسمية التي تتضمن في جوفها عدداً آخر متكاثراً من الجمل الفعلية.
يعتمد نسق هذه الجمل على عمليات التوازي والتماثل التي تبلغ بالتكرار المعجمي درجة الاشباع والحذف تشتهي طعم الدواهي: تشتهي طعم دمى، طعم التراب ثم ينطوي جسمي، يلتفّ، ينحلّ، تمحيها، تبنيها ثم ينحلّ الجسم ذاته بعد أن يطفو الى جبهة يغسلها ظل شعاع، يوشي في جبال الليل أطراف الشراع. وإذا كانت القافية تلعب دوراً أساسياً في ربط الصيغ فإن عمليات التخالف التي تقطع التوازي مثل تقديم الجار والمجرور في ضباب الحلم تقوم بدور مماثل أيضاً في ربط الصيغ، على طريقة المعماريين في كسر التماثل الرأسي برباط أفقي مخالف يشد من أزر المجموع. كما أن تكرار الجمل ذاتها - ووضعها بين قوسين - في نهاية المقطع يلعب الوظيفة ذاتها على مستوى الدلالة عندما تقول الزوجة: "كنت أسترحم عينيه/ وفي عينيّ عار امرأة/ أنّت، تعرّت لغريب/ عاد من حضرته مَيْتاً كئيب".
لتضع البعث موضع تساؤل جدي، عندما تنتفض الجثث بحياة مصطنعة لا تقوى على إشباع نهم الحواس الخمس، فتسير بأكفانها أشد موتاً مما كانت عليه من قبل.
هنا تحتدم التجربة الوجودية لخليل حاوي، حتى تتآكل على نارها مسلمات الوعي القومي المنصهر في روحه، في عملية تواز آخر - مشكوك في صحته - بين حياة الفرد والجماعة، إذ أن الأجيال لا تتكرر لديها تجارب الأفراد في البعث، مثلما تتكرر الصور النحوية في العبارة بكلمات مختلفة، فحركة البناء وطاقة الخلق تعيد ترتيب انساقها في الوجود مثلما تعيد الصيغ ترتيب مكوناتها بما يضمن لشعريتها المبدعة تجدداً مستمراً في زمن التحولات المستحيلة.
وقد لاحظ اللغويون والنقاد المحدثون أن شعرية التوازي تنتشر بشكل لافت في الأغاني والأقاصيص والمنظومات الشعبية الفولكلورية، أي في الشعر الشفاهي، وأن ذلك يرتبط بوظائف تنظيم الذاكرة والعون على الحفظ والاستدعاء. ومعنى هذا أن الشعراء الذين يرتبطون بالموروث الشفاهي - وقد كان خليل حاوي نموذجاً لهم - قد يعمدون الى توظيف عمليات التوازي في الأبنية النحوية أكثر من غيرهم، لأنها تمثل مصدراً حيوياً لشعريتهم، وربطاً عضوياً لها بمنابعها في الصوغ الشفاهي والاستثمار لأنماط الصور التركيبية. ولكننا عند التأمل نجد الوضع يختلف لدى خليل حاوي، لأنه كان - على ولعه الشديد بالمرويات الشفوية وكتابته للزجل العامي ومشاركاته في المحافل الانشادية خصوصاً في شبابه بحسب رواية أخيه - شديد الاعتداد بالبطانة الفلسفية التي تغلف رؤيته للعالم، وتكثف خواطره في مصيره، وتمد شعره بقوة فكرية متميزة، ترقى به لتفادي مظنة التلاعب بمهارات الصيغ والأشكال الصوتية. وقد كان واعياً بذلك، حيث يقول في أحد أحاديثه: "اطلاعي وثيق جداً في الحضارة العالمية منذ ما قبل أفلاطون الى آخر التطورات في الفكر، وهذا الأمر مخالف لما تواضع عليه الناس. في مجال الثقافة الأدبية كان المفهوم السائد أن الفكر الفلسفي يفسد الأدب وخصوصاً الشعر. وربما كان لثقافتي الفلسفية بعض الأثر في تميز شعري عن شعر الآخرين من رواد الشعر الحديث. وأعتقد أن الفكر الفلسفي عمّق الرؤيا الشعرية من دون أن يوشحها أي أثر من آثار الفكر الذي يقرر تقريراً أو يرد على سبيل الحكمة المأثورة" راجع جميل جبر - خليل حاوي ص 54. وقد كانت دراسته في الماجستير عن "العقل والايمان بين الغزالي وابن رشد" وفي الدكتوراه عن جبران مصدراً خصباً لهذه الثقافة الفلسفية، ومعنى هذا ان تفاعل التيارين في نسيج خطابه الشعري يعطي لتكويناته اللغوية وصياغاته هندسة وظيفية وجمالية، لا تقنع بحسن التقسيم الواضح، ولا بمزايا التوازيات الظاهرة في المفارقات الجلية، بل تعمد الى بث الروح الدرامي والملحمي في الموقف، بتعدد الأصوات، وتعميق المنظور وحركيته في الآن ذاته، وربما كانت بعض تأملاته الشعرية في "الرعد الجريح" مثالاً على ذلك، خصوصاً وهو يقدم لها - على عادته - بحديث نقدي مستبصر يرصد وجهتها الاستراتيجية بقوله: "كاد يسيطر ايقاع الهلاك على القصيدة من المستهلّ الى الخاتمة، ثم تجلّت الرؤيا هالة من هول الرعد ومهابة الجبل في طلعة بطل مخلّص، صاغه دفق الحياة البكر في أرض راحت ترفل بحيوية الفطرة، لطول ما اختزنت من طاقة هائلة عبر هجوع طويل"، لكنه يجسد هذه الحيوية في: "ذلك الطفل الطريّ/ لو تراه/ في الكوابيس التي تعجنه/ تعمي نهاره/ أخطبوطاً في محاره/ وترى الدب تُمشّيه/ الى هوة ليل يتقيه/ ولماذا يتقي/ ما ضم في عتمته/ وجه أبيه/ وجباهاً غضة مستعرة/ وصغاراً في قبور نضرة".
فتقابلات الرؤية والعمى، النهار والليل، الابن والأب، الهداية والضلال، الوجه والجبهة كلها تندغم في تفريعات تتداخل وتمتزج مبقية على آثار خفيفة من التوازي والتوالد لتشكل صوراً حسية ونحوية منبهمة الحدود، في سعيها الى اقتناص الرؤية الفاجعة في "الطفل المقبور" وما ترمز اليه من الأمل المبتسر في "المخلّص العظيم"، حيث يصبح المستقبل "هوة ليل" وتنتهي نضرة الحياة الى رماد المدافن.
غير أن هناك مقطعاً آخر في القصيدة يشير صراحة الى نهج خليل حاوي في إقامة التوازي بين حيوية الشعر وتخليق الوجود واعتبار أشكال الرصف والترصيع في الصوغ إهداراً لروح الابداع إذ يقول: "شاعر العصر/ يصوغ الشعر/ ترفيهاً يغني عبر تمويه الشفاه/ يحتفي بالرصف والترصيع/ في "بيت" خوى من ساكنه/ ويصلي باسم واليه/ ويحشو ربه الأكبر/ حشواً فارغاً في باطنه".
هكذا تتجلى شعرية خليل حاوي، فعلاً ابداعياً وحضارياً بناء، يمتلك استراتيجية مستقبلية في فن الكتابة، وهندسة القصيد، كما يعبر عن رؤية درامية للحياة في أقصى طاقاتها الحيوية على المستوى الفردي والجماعي، بما يجعله من أعمق أصوات العصر وأشدها ثراء وجمالاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.