ذكر الأديب الجاحظ (ت: 870/255) في كتابه الحيوان تحت عنوان (الانتباه الغريزي في الكلب) هذه التجربة التي أجراها صديق له على كلب عنده حيث إنه حبس الكلب في قفص وكان الكلب معتاداً على أن الطباخ يأتي باللحم من السوق في وقت معين بالنهار وقد لاحظ أن الكلب بمجرد سماعه للطباخ وهو يحد سكيناً بسكين مع انبعاث رائحة اللحم يأخذ بالنباح ويضطرب في محبسه كأنه يريد الخروج، فكرر صاحب الكلب التجربة في المساء لكي يرصد ردة فعل الكلب وهل يحدث تغير فيها فلم يتحرك الكلب عند سماعه صوت حد السكين لعلمه أن هذا ليس وقت وجبة اللحم. ثم أعاد إجراء التجربة على كلب آخر لم يتعود على تلازم صوت السكين مع وجبة اللحم فلم يتحرك. فعلم أن الكلب الأول ارتبط عنده صوت حد السكين في وقت معين مع تقديم وجبة اللحم. وفي العصر الحديث عام (1902/1320) أجرى العالم الروسي إيفان بافلوف (ت: 1936/1355): تجربته الشهيرة على كلب تعود أن الخادم يقدم له اللحم فيسيل لعابه عند سماعه وقع اقدام الخادم تحسباً لوجبة الطعام المحببة، فقام بافلوف بتوصيل أنبوب في رقبة الكلب ليقيس كمية إفراز لعابه عند حدوث هذا المثير الغريزي، ثم أنه أخذ يضرب جرساً ويتبعه بتقديم اللحم للكلب مباشرة بعد الجرس، ومع تكرار العملية لاحظ بافلوف أن لعاب الكلب يسيل في كل مرة يتم فيها سماعه لصوت الجرس قبل تقديم وجبة اللحم مما يعني أن الكلب ربط بين صوت الجرس وإحضار الطعام... ثم عمد بافلوف إلى ضرب الجرس دون تقديم اللحم عدة مرات فلاحظ أن سيلان لعاب الكلب بدأ بالتناقص. ومن هنا خرج بافلوف على العالم بنظريته الشهيرة وهي (نظرية الاستجابة الشرطية) والتي انتقلت من حيز المختبرات التجريبية إلى تطبيقها في المجالات الإنسانية عامة وإفادتها في مجال التربية وعلم السلوك على وجه الخصوص. ومن الاستعراض السابق للتجربتين التي يفصل بينهما إحدى عشر قرناً من الزمان نلاحظ أن (تجربة الجاحظ)* لا تختلف عن (تجربة بافلوف) في المعايير العلمية التجريبية لاختبار صدق نتائجها بتكرارها في ظروف مختلفة لاختبار صدقها.... إلا بحجم الفارق الزمني الذي صاغ الشكليات على نحو مفارق، فبينما نجد التشابه قائم في التجربتين في إجراء التجربة على حيوان الكلب نجد التشابه كذلك في الغذاء وهو اللحم ... وكذلك فقد استبدل بافلوف السكين بالجرس وبينما لاحظ الجاحظ توتر الكلب مع صدور المثير في وقته وعدم استجابته عندما يصدر المثير في غير وقته، فإن بافلوف قاس ذات الشيء في ظرفين مختلفين حيث اهتم بقياس كمية اللعاب عند ظهور المثير وعند غيابه. وسؤالي هو : هل اطلع العالم الروسي بافلوف على تجربة الجاحظ ونظريته (الانتباه الغريزي في الكلب) عن طريق ترجمة روسية لكتاب الحيوان مثلا ؟ أو أنه توصل إليها بطريق غير مباشر بواسطة عالم آخر استوحاها من الجاحظ ؟ أم هي عميلة تخاطر عفوية قادت إلى هذا التوافق الشديد بين التجربتين (الله أعلم). وفي الختام: إذا كان بافلوف فاز بجائزة نوبل عام 1904م على انجازه لنظرية (الاستجابة الشرطية) فإن (جاحظنا) من حقه مناصفة جائزة نوبل مع بافلوف لاكتشافه نظرية (الانتباه الغريزي). ... ... ... * مع أن الجاحظ نقل تجربة صديقه ولم يجرها بنفسه إلا أني نسبتها إلى الجاحظ تجوزا لأنه هو الذي أذاعها. ** **