لاحظ العالم الروسي الشهير بافلوف أن الكلب لعابه يسيل عندما يوضع اللحم في فمه ، فقام بعزل أحد الكلاب في غرفة مغلقة و أجرى تجربة عليه ، فكان في كل مرة ؛ يقرع الجرس ثم يقوم بإنزال اللحم إلى الكلب،و بعد تكرار التجربة عدة مرات لاحظ أن لعاب الكلب يسيل بمجرد أن يقوم بقرع الجرس و قبل أن يصل اللحم إلى فمه، ذلك أن الكلب قرن قرع الجرس بوصول اللحم ،فأسمى بافلوف قرع الجرس مثيراً شرطياً ،واعتبر سيل لعاب الكلب استجابة شرطية ،أعاد بافلوف التجربة بشكل آخر ،فكان يقوم بقرع الجرس دون أن يُتبعه إنزال اللحم إلى الكلب ، فكان الكلب في المرة الأولى يسيل لعابه بغزارة ،و مع تكرار العملية لا حظ أن لعاب الكلب يتناقص تدريجياً حتى تلاشى ووصل إلى حد الانطفاء ،و لم يعد قرع الجرس يمثل له أدنى إثارة ... تجربة بافلوف تدل على أن التعويد يصنع الانطباع ،وأن التكرار من الوسائل الجيدة لغسل الأدمغة، فإذا أردت صرف الناس عن شيء فاقرنه بشيء آخر غير مرغوب فيه بشكل متكرر، فمثلاً حين تُعوِّد الناس على أن زيادة الرواتب يتبعها تضخمٌ وغلاءٌ في الأسعار فستجد بين الناس من يطالبك بحل آخر غير الزيادة ويقول ( تكفى فكنا من الزيادة )،في ظاهرة تدعو للعجب والاستغراب، وعملية تبدو للوهلة الأولى أنها تحدث بشكل عفوي وغير مقصود ، أو أنها ثقة مطلقة في وزارة التجارة إلى حد التصديق أن ليس بإمكانها إجبار التجار على تخفيض الأسعار ! ... فحين أعلنت قطر أنها ستزيد رواتب الموظفين بنسب عالية تعالت أصوات الجماهير المطالبة بذات الإجراء في كل دول الخليج – والأمر لا يخلو بطبيعة الحال من وجود أصوات متحفظة – ،باعتبار أنها تعيش نفس الظروف وتواجه ذات المتغيرات والتحديات، فالتضخم وغلاء الأسعار قد عصفا بدول الخليج كلها وليس دولة دون دولة ،وإن كانت درجة التأثير ليست واحدة ، ففي بعض الدول تشريعاتٌ من الممكن أن تقوِّض هذه الأزمات وتضعف تأثيرها إلى أبعد حد كدعم السلع الأساسية والعلاوات الاجتماعية و تفعيل قانون حماية المستهلك ، وهناك من قال أنها أزمات عالمية و اكتفى بتبرير الارتفاع والتضخم واضعاً اللوم كل اللوم على عاتق الشعب المسكين، أو أحال ذلك إلى القضاء والقدر والذنوب والمعاصي ،ومع التكرار اعتقد الناس أن ما أصابهم من غلاء الأسعار والتضخم وانخفاض مستوى المعيشة هو مما كُتب في لوح القدر،وأنه بسبب ذنوبهم وقلة عبادتهم وطاعتهم ،مستبعدين أن تكون زيادة الرواتب حلاً ، مع أنها من الوسائل الجيدة والمعروفة في مواجهة غلاء الأسعار والتضخم ، فزيادة الرواتب معناها الحفاظ على المستوى المعيشي للمواطنين بعد أن فقدت أوراقهم النقدية قيمتها الشرائية ،وهي علاج للتضخم لا سبب فيه ، و فيما يتعلق بالزيادة القطرية فليس صحيحاً أن ما يصح في قطر لا يصح في غيرها، بحجة أن التضخم فيها أكثر مما هو في غيرها أو لأن عدد سكانها يتيح لها أن تزيد في الرواتب كيف تشاء ،فأسعار السلع الأساسية في الخليج متقاربة في غير الأماكن السياحية ،و لو كان عدد السكان دليلاً على غنى الدول وفقرها لكانت الصومال أغنى من الصين، فالمقارنة لا تبنى على عدد السكان فقط بل تقوم على أساس متوسط دخل الفرد الذي هو (ببساطة) نسبة الناتج المحلي للدولة إلى عدد السكان ،والذي يُفترض فيه أن يكون دخل الفرد في السعودية هو الأعلى في الخليج ،أقول يُفترض ... شافي الوسعان