تقديم المترجم: هنا ورقة للمستشرق الألماني الشاب الدكتور مانفريد سينغ، نشرت في أبريل 2016. ولد الدكتور مانفريد سينغ في عام 1966 في أولندورف، بادن فورتمبيرغ، ألمانيا. ودرس الدراسات الإسلامية وعلم الاجتماع والتاريخ في جامعة فرايبورغ وجامعة دمشق خلال 1994-2000. وحصل على الدكتوراه عام 2005 في الدراسات الإسلامية في جامعة فرايبورغ الألمانية. وعمل محاضرا في جامعة فرايبورغ خلال 2005-2007. ثم نفذ «مشروع ما بعد الدكتوراه» خلال 2007-2008 بعنوان «إعادة توجيه (REORIENTATION) اليساريين العرب في الشرق الأوسط بعد عام 1989». كما عمل باحثا مشاركا في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت خلال 2009-2012. ويعمل، منذ فبراير 2013، عضوا في هيئة التدريس في معهد ليبنيز للتاريخ الأوروبي، ماينتس، ألمانيا. ونود أن نشير إلى أن المؤلف يستخدم مصطلح «دمقرطة» ليعني «عملية التحول الديمقراطي»: وبالنسبة إلى اليسار العربي، كان من البدهي معارضة حجج هنتنغتون الثقافية وكذلك حجج فوكوياما الليبرالية. ولذلك، حصلت أطروحة فوكوياما على اهتمام كبير في منطقة الشرق الأوسط بعد صدورها. ونَشرت «مجلة الفكر العربي المعاصر» عدداً خاصاً في عام 1990 عن «نهاية التاريخ»، بما في ذلك مقاطع من كتاب فوكوياما وردود أفعال من كتّاب غربيين بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، كما نشرت قسماً خاصاً يشمل ردود فعل بعض الكتّاب العرب في 1993. (15) كما تُرجم كتاب فوكوياما بسرعة إلى اللغة العربية، وأشرف على الترجمة المفكر السوري (الراحل) مطاع الصفدي (1929-2016)، وتمت الترجمة برعاية مركز الإنماء القومي في بيروت. (16) كما برر الصفدي، في تقديمه، سبب هذا الاستعجال بأن أفكار فوكوياما تمثل أهم إنتاج أيديولوجي «بعد العدوان الأمريكي على العرب وتفكك الاتحاد السوفيتي» (17) و«هبوط وانتشار خطاب نخبوي على بقية العالم» الذي كان أول ضحاياه العرب. (18) وحاول الكتاب بناء «مشروع أيديولوجي في عصر يوصف - بتوافق الآراء - بأنه ما بعد أيديولوجي». (19) وعدت أفكار فوكوياما معاديةً للعالم العربي، ليس فقط لأن استقبالها تداخل مع الحرب التي قادتها الولاياتالمتحدة ضد العراق في عام 1991 لتحرير الكويت؛ ولكن، أيضا، لأنها تمثل شرعنة لهذه الحرب. ولم يكن من قبيل الصدفة أن فوكوياما ناصر الحرب ضد العراق عام 1991 ثم ناصر أيضا غزو العراق عام 2003، والذي عد كامتداد لاستراتيجية أمريكا التي تنفذ منذ عام 1991. ولكن حقيقة أن فوكوياما انقلب لاحقاً ضد أصدقائه المحافظين الجدد السابقين ولقبهم بال «لينيين» (20) بعدما أصبحت النتيجة الكارثية لغزو العراق واضحة، ولاحظها المفكرون العرب كما ينبغي. (21) ولم يتخل فوكوياما عن ربطه بين الدمقرطة وإمكانية استخدام العنف؛ بل نأى بنفسه فقط عن تطبيق أفكاره على العراق. وكانت نقطة النقد الرئيسة للصفدي هي أن نظرية فوكوياما تهدف إلى تقسيم العالم إلى مناطق ديمقراطية وغير ديمقراطية. وهذا التقسيم يخدم الحجة القائلة بأن الديمقراطيات لن تقاتل بعضها بعضا، وأن شن حروب ضد المستبدين مُبرر. وكان هذا «الخطاب النخبوي» يميز فقط القلة السعيد الذين استمتعوا بحياتهم في «ما بعد التاريخ»، في حين اتجه جميع الآخرين نحو «مزبلة التاريخ»!! (22) وكانت حماسة فوكوياما التبشيرية التي حوّلت الدمقرطة العالمية إلى خلاص دنيوي للجنس البشري، (23) متعارضة مع المشاعر اليسارية لما بعد الحرب الباردة بشكل عام، والتجربة اللبنانية على وجه الخصوص. وفي حين تزامنت نهاية الحرب الباردة مع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ونهاية غيرها من الحروب بالوكالة في بلدان العالم الثالث، أدرك اليسار أنه وفقاً لجميع الاحتمالات قد ذهب إلى الحرب بنوايا طيبة؛ ولكن مع آمال غير واقعية ونتائج يرثى لها. (24) د. برهان غليون: معظم العرب «لا يفرقون بين الليبرالية والديمقراطية»!! وكانت النقطة الأكثر وضوحاً في نقد أطروحة فوكوياما هي الترابط والتداخل بين الديمقراطية من جهة مع الليبرالية والرأسمالية من جهة أخرى. وقَدَّرَ المفكر السوري برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي، في عام 2005، أن معظم العرب الذين يصنفون أنفسهم ليبراليين «لا يفرقون بين الليبرالية والديمقراطية». (25) وجادل غليون أن الليبرالية تسعى إلى الحد من تدخلات الدولة في المجتمع والاقتصاد، في حين أن الديمقراطية لا يمكن أن تنجح إلا عندما توفر الدولة الحد الأدنى من الحقوق. وتحت الأنظمة القمعية، يميل الليبراليون العرب إلى مساندة ما يسمى ب«التطرف الليبرالي» ومناشدة التدخل الأجنبي لتحقيق تغيير ديمقراطي؛ لأنهم فقدوا ثقتهم في القوى الاجتماعية الداخلية. وهكذا، اتبعوا عمليا مسار اليساريين العرب الذين تم أيضا تهميشهم في مجتمعاتهم وأصبحوا منعزلين عن الدولة والمجتمع. (26) وبالرغم من الانتقادات الموجهة نحو فوكوياما، واصلت المصطلحات الليبرالية الانتشار بين خصومها. وبشكل عام، لم يتمكن «ما بعد الماركسيين» أن يهربوا من الحاجة إلى اللبرلة التي باتت تؤكدها الأدلة، وبالتأكيد لم يبرز «ما بعد الماركسيين» العرب كاستثناء بخصوص اقتباس المصطلحات والشعارات الليبرالية. (27) يتبع ... ... ... ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء