تقديم المترجم: هنا ورقة للمستشرق الألماني الشاب الدكتور مانفريد سينغ، نشرت في أبريل 2016. ولد الدكتور مانفريد سينغ في عام 1966 في أولندورف، بادن فورتمبيرغ، ألمانيا. ودرس الدراسات الإسلامية وعلم الاجتماع والتاريخ في جامعة فرايبورغ وجامعة دمشق خلال 1994-2000. وحصل على الدكتوراه عام 2005 في الدراسات الإسلامية في جامعة فرايبورغ الألمانية. وعمل محاضرا في جامعة فرايبورغ خلال 2005-2007. ثم نفذ «مشروع ما بعد الدكتوراه» خلال 2007-2008 بعنوان «إعادة توجيه (REORIENTATION) اليساريين العرب في الشرق الأوسط بعد عام 1989». كما عمل باحثا مشاركا في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت خلال 2009-2012. ويعمل، منذ فبراير 2013، عضوا في هيئة التدريس في معهد ليبنيز للتاريخ الأوروبي، ماينتس، ألمانيا. ونود أن نشير إلى أن المؤلف يستخدم مصطلح «دمقرطة» ليعني «عملية التحول الديمقراطي»: وتتعامل رواية «عزيزي السيد كواباتا» (84) لرشيد الضعيف بشكل يشبه السيرة الذاتية ليس فقط مع خيبة أمله شخصيًا؛ ولكن، أيضًا، مع ألعاب لغوية شيوعية والموت استشهادًا. كتاب الضعيف، الذي نشر في عام 1995، كان ملائمًا تمامًا للمزاج اليساري الاكتئابي إبان تلك المرحلة. الكتاب لا يذكر الإطار الزمني المحدد لخيبة أمل الضعيف نفسه، التي نفترض أنها جرت في عام 1979 عقب تورط الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية. وبأسلوب مكثف، ينتقل راوي الضعيف بين الأحداث قبل وأثناء وبعد الحرب لإيصال رسالته إلى القارئ. ويصبح التجاور بين الفردانية والجماعية مرئيًا عندما يُلمح الراوي إلى «نا» عربية، عبر استخدام اللغة بطريقة مخاتلة، و»نا» شيوعية تخضع نفسها بشكل مضجر لشعارات ومثل عليا يتم تشويهها بين الحين والآخر. (85) وبهذه الطريقة، يعيد «المؤلف-الراوي» إنتاج مسار عدم الانتماء؛ لأنه يحاول وضع نفسه بعيدًا عن المجموعات التي ينتمي إليها.(86) ويعبر الراوي عن خشيته من أن الشهداء الميتين سوف يطاردنه في نومه؛ لأنه يشعر بالذنب، لدفاعه عن الاستشهاد. (87) وبالاعتماد على هذا، وجد بعض النقاد فكرة رئيسة عن الشعور بالذنب، وجادلوا بأن تفانيه في خدمة القضية الاشتراكية تحول إلى كابوس من الشعور بالذنب، (88) وأن الراوي الذي يعاني من الشعور بالذنب يخضع لعملية «تطهير». (89) وفي الجوهر، فإن مضمون رواية الضعيف يمكن مقارنته ب «اعتراف كاثوليكي». (90) ولكن تحلل الذات واللغة والتطهير من خلال الاعتراف لا تنسجم معًا؛ فالرغبة في الاعتراف تتطلب لغة موثوقة وذات واعية لا تفصل الأفعال عن المساءلة. ولذلك، يبدو أن الفهم الأكثر ملاءمة للرواية هو كحبكة أو تركيب عن التناقض بين التجربة الذاتية من جهة، والقناعات المشتركة بشكل جماعي من جهة أخرى. وتزخر الرواية بشكل ملحوظ بتلميحات إلى حقيقة أن الأرض هي مجرد طبق يتحرّك حول الشمس وهي فكرة تكررت 20 مرة على الأقل. إن الراوي الشاب ووالده، بالرغم من أنهما متعارضان سياسيًا، يشتركان في الاعتقاد بأن المسافة قصيرة بين المعرفة العلمية من ناحية وبين الإلحاد والاشتراكية من ناحية أخرى. (91) ويعتقد الراوي أن الناس لن يتحملوا مشقة الدنيا عندما يدركون أن العالم ليس سوى كرة تدور عبر الفضاء، وأنه لا ثواب ينتظرهم في الآخرة. وفي نهاية الرواية، يتحطم اعتقاده بالكرة التي تلتف في الفضاء كوعد بالثورة تمامًا. (92) ومن المثير للاهتمام كيفية تصوير الضعيف ردته النهائية عن الشيوعية. ليس لأنها تسير جنبًا إلى جنب مع الألم النفسي الناتج عن الشعور بالذنب؛ ولكن أيضًا مع الألم الجسدي الشديد، نتيجة إصابة بالغة حدثت بعد بضع سنوات من نأي الضعيف بنفسه من الحزب وابتعاده عنه. ولا يتعالج الراوي من أوهامه، بسبب الألم وتجربة الاقتراب من الموت؛ ولكن أيضًا القدرة على «الرؤية لأول مرة»، متبوعة باكتشاف مروع بأن رفاقه لا يتذكرون الحادث الذي كاد أن يقتله تقريبًا بل ولا حتى يبالون به. (93) وبينما في الثقافتين التقليدية والشيوعية يتم تبجيل الشهيد كفرد (وفقًا لصاغيّة)، فإن نجاة الضعيف من الاستشهاد تعزله عن المجتمع والمعتقدات والانتماءات، سواء تقليدية أو علمية أو ثورية؛ فغموض وذاتية الراوي هما نتيجة لفقدان الجماعية. ويتحدث الضعيف عن المجموعة الواسعة من الذين خاب أملهم والذين لم يقدروا على تشكيل جماعية جديدة. وعبر القيام بذلك، ينوي الروائي الاعتراف بالذنب؛ ولكنه يرفض التطهير، ولا يقدم «مجرد التفكير» في الانتحار أيّ نوع من الخلاص. (94) ويمكن العثور على أمثلة أخرى من التجارب الذاتية المحبطة في أدب السجون، (95) حيث يتعامل الماركسيون مع احتجازهم في السجون السورية والإسرائيلية. وهنا، تصبح الفردانية عبارة عن عملية تخضع فيها «الأنا» المنقوشة في الجسم والعقل لتجارب التعذيب والرتابة، التي تنتج ألمًا لا يطاق تقريبًا ولا عقلانية تستمر حتى بعد الإفراج عنهم. ومن ثمّ، يفاجأ السجناء السابقون بحالة «لا مبالاة « المجتمع التامة بتضحياتهم. (96) وتعد تجربة مثل هذا الاغتراب العميق أساسية في أدب السجون في سوريا، حيث يشترك الجلاد مع الضحية في «الهوية الوطنية» و»الأيديولوجية». وقدّم سجن «الخيام» الإسرائيلي في جنوبلبنان نموذجًا بطوليًا، فقد عنونت المناضلة الشيوعية سهى بشارة سيرتها الذاتية «مقاومة»، وتواصلت مع جماعتها في العنوان الفرعي (في النسخة الإنكليزية فقط): «حياتي لأجل لبنان». (97) النتيجة لقد كان اقتباس اليساريين السابقين للمصطلحات الليبرالية ممكنًا؛ لأن حدود الإطارين الأيديولوجيين لكلاهما كانت مشوشة، وكانا يشتركان في الهموم نفسها، وكانا مفتوحين لتفسيرات براغماتية مختلفة. وحاول بعض الماركسيين، كإلياس مرقص وياسين الحافظ، استخدام أفكار ليبرالية خلال عصر ذروة الماركسية العربية في السبعينيات. وتجلى التقارب مع الليبرالية – جزئيًا - بين عامي 1989 و2011، خصوصًا في انتقاد الدولة. وكان التقارب في سورياولبنان مع الليبرالية قد تشوش؛ لأنه كان ينبغي على الماركسيين والشيوعيين إعادة التأقلم مع تغير التشكيلات السياسية في تحالفات المعارضة أو الحكم. وفي حين فهم الماركسيون الشيوعية أساسًا كنظرية للثورة، فإنه يمكن أن ننظر إلى تاريخ الشيوعية كالتالي: (1) رغبة في تغيير مصير البشرية؛ و (2) حنين ورغبة لإعادة تمثيل الثورة البلشفية، و (3) صعوبة تنفيذ الأفكار عمليًا. وقد تحطّمت وحدة النظرية والممارسة غالبًا عبر ممارسات سوفياتية وشيوعية، حوّلت كل من الرغبة والحنين إلى أمرين مشكوك فيهما. إن حقيقة تحوّل العديد من اليساريين العرب السابقين لاحقًا إلى المجال الثقافي، حيث عبروا عن سخطهم من السياسة، يثبت أن النظرية والممارسة اليسارية تفككتا. وأدت أحداث الربيع العربي إلى إحداث تراجع دقيق؛ لأن الكثير من المراقبين حاولوا تحديد نظرية ليبرالية وراء تلك الممارسة الثورية. ونظرًا لأن الشعار الرئيس للربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» يعبر أيضًا عن إدانة الاستغلال وسوء المعاملة، فمن الممكن أن نفترض، على الأقل للحظة واحدة، أن فكرة ماركس الثورية عن نهاية الفلسفة قد اندمجت مع فكرة فوكوياما الليبرالية عن نهاية التاريخ؛ ولكن لغة مرحلة «ما بعد الحرب» الباردة الليبرالية المخاتلة، التي ترتكز على فكرة الدمقرطة (التحول الديمقراطي)، لا تُظهر بشكل مباشر أو معين مسارًا نحو الديمقراطية. فهناك غموض في استخدام مصطلح الديمقراطية، وكذلك في تبرير العنف السياسي والتدخل الأجنبي؛ وجميعها في حد ذاتها قد تفسد تحقيق الهدف الديمقراطي. وهكذا، ربما يمكن للمرء أن يستنتج أن التطلع الحديث للعمل الجماعي إلى إسقاط النظام مسكون بالنغمات الخفيفة القديمة نفسها التي تتأرجح بين الرغبة والحنين وخيبة الأمل!! ... ... ... ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء