(بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة) قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، (27-29) سورة الحج. بعد أن فرغ خليل الله إبراهيم عليه السلام من بناء الكعبة المشرفة أمره الله سبحانه وتعالى بالحج، وسار العرب على تلك الشعيرة حتى بعد انحرافهم عن توحيد الله وإشراكهم به. إن كلمة (حج) من الكلمات السامية الأصلية، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام، وكذلك وردت في أسفار التوراة. وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته. حيث كان في الماضي لكل قوم آلهة ولهذه الآلهة أماكن يقصد لها للحج والتعبد تسمى (بيوت الآلهة) أو (معابد)، ويكون الحج بأدعية وبمخاطبة الآلهة وتوسلات لتقبل حج ذلك الشخص. كما كان هناك في زمن الجاهلية (الحج الصامت)، أي أن الحاج لا يتكلم، يظل صامتاً طيلة أيام حجه. أما موسم الحج لدى العرب فكان في شهر ذي الحجة كما حجنا الآن، وقد وردت نصوص بالمسند تدل على الحج بلفظ (ذ حجتن). وبما يختص في أماكن التعبد فقد تعددت بيوت الأرباب التي كان يحج إليها العرب في شهر ذي الحجة وعدم حصر ذلك في المسجد الحرام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أ) بيت اللات في الطائف، وهو عبارة عن صخرة مربعة بنت عليه ثقيف بيتاً، ويبدو أنه بُني على طراز البيت العتيق. ب) كعبة غطفان، بيت بناه ظالم بن سعد بن ربيعة، مربع الشكل وله حرم يحج إليه. ج) الكعبة اليمانية (ذو الخلصة)، عبارة عن مروة بيضاء منقوش عليها كهيئة التاج، وفي عهد الدولة السعودية الأولى عاد الناس لتقديسها فهدمت في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود عام 1230ه. وهذا مصداقية لحديث رسولنا عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)، وقد وقف سعادة الدكتور محمد بن سلطان العتيبي الرئيس الحالي لقسم الآثار بكلية السياحة والآثار بنفسه على بقايا هذا المعبد في وادي ثروق في دوس بمنطقه (الباحة). د) كعبة نجران كانت لبني الحارث بن كعب وربما بنيت على هيئة الكعبة المشرفة وكان لها قبة من أدم من ثلاثة مئة قطعة من الجلد. لم ترد لنا صفة حج العرب بتلك (المحجات) بالتفصيل فقط وردنا حجهم للبيت الحرام في مكة وإن كانت طقوسهم شبيهة نوعاً ما بحج الإسلام والجاهليين من ناحية الطواف والذبح ومن ثم الرقص والاحتفال بالأعياد. أما ما يخص الحج في الجاهلية للبيت الحرام فعند حضور العرب موسم سوق (عكاظ) والذي يعقد في شهر ذي القعدة وعند انتهائه من أراد منهم الحج عليه أن يذهب إلى (مجنه) إلى ظهور هلال ذي الحجة، ثم يرتحل إلى (ذي المجاز) ومنه إلى (عرفة) فإذا كان يوم التروية تزودوا بالماء وارتفعوا إلى (عرفة) هذا بالنسبة للتجار الذين كانوا يأتون هذه المواضع للتجارة. أما بالنسبة لغيرهم فقد يقصدون الحج في أي وقت شاءوا ثم يذهبون إلى عرفة للوقوف موقف عرفة يقصدها (الحلة)، أما (الحمس) فيقفون بنمرة ثم يلتقون جميعاً بمزدلفة للإفاضة. * الحُمس: قريش وولدهم. *الحلة: أو الحُل هم سائر العرب أو القبائل. ومن طقوسهم إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج تقلد قلادة من لحاء السمر دلالة على ذهابهم للحج فيأمن حتى يأتي أهله. يبدأ حجهم بالإهلال، فكانوا يهلون عند أصنامهم ويلبون إليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة. كما أنهم يطوفون حول الرجمات والأصنام والذبيحة التي تقدم للآلهة وكان يسمى الطواف ب (الدوار) وكان سبعة أشواط. كانو العرب يطوف منهم الشخص ويده مربوطة بيد إنسان آخر بحبل أو خيط أو منديل وغيرها، يفعلونه نذراً أو حتى لا يفترقا، وقد روي أن رسولنا الكريم رأى ذلك فقطع بيده ذلك الرباط، وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. يكون الطواف بالبيت الحرام بأحذيتهم لا يطئون أرض المسجد تعظيماً لها إلا أن يكون الحاج فقيرًا حافياً، وكان (وليد بن المغيرة) أول من خلع حذاءه عند دخول الكعبة تعظيماً لها فخلع بعده الناس أحذيتهم. ويصنف الطائفون في البيت الحرام إلى صنفين، صنف يطوف في ثيابه وهم الحُمس، وصنف يطوف عارياً وهم (الحُل)، وكان القصد من طرح ثيابهم هو طرح ذنوبهم معها لأن لديهم اعتقاد أن لا يعبدوا الله في ثياب أذنبوا بها وكانت تسمى ثيابهم تلك (اللقى)، وفي رواية أن من يطوف بثيابهم منهم (يضرب) وتنزع منه ثيابه. أما (نساء) (الحُل) فيخضعن لهذه القاعدة نفسها، وقيل هناك من تستر نفسها بيديها من الأمام والخلف، وهناك من تضع سيوراً لستر نفسها ومنهن من يطفن ليلاً. مدة طوافهم أسبوع، وكانوا يمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة. وفيما يخص تلبيتهم: - تلبية قريش لإساف (لبيهم اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك). - تلبية من نسك للعزى (لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ما أحبنا إليك). - تلبية من نسك مناة (لبيك اللهم لبيك، لبيك لولا أن بكراً دونك يبرك الناس ويهجرونك، ما زال حج عثج يأتونك إنا على عدوائهم من دونك). وهناك العديد من صيغ التلبية. من عرفة تكون الإفاضة إلى مزدلفة ويمضي الحجاج ليلتهم ليلة العاشر من ذي الحجة، ومنه تكون الإفاضة عند الشروق إلى منى، وكان (قصي بن كلاب) قد أوقد نارًا على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة. وفي منى ترمى الجمرات ثم تنحر الأضاحي. رمي الجمرات كانت من شعائر الحج المعروفة في (المحجات) الأخرى من جزيرة العرب. ويرجع مبدأ رمي الجمرات إلى (عمرو بن لحي)، يذكر أن جاء بسبعة أصنام فنصبها بمنى عند مواضع الحجرات وعلى شفير الوادي ومواضع أخرى وقسم عليها حصى الجمار، إحدى وعشرين حصاة، يرمى كل منها بثلاث جمرات ويقال للوثن حين يرمى أنت أكبر من فلان الصنم الذي يرمى. وكان أمر الإفاضة بيد رجل من أسرة تناوبت هذا العمل أباً عن جد، وقد اشتهر منهم (عميلة بن خالد العدواني) أبي السيارة كان يجيز الناس من مزدلفة إلى منى أربعين سنة، حيث كان يركب حماراً أسود وينظر إلى أعالي جبل (ثبير) فإذا شاهد أشعة الشمس الأولى نادى: أشرق ثبير، كيما نغير ثم يجيز لهم الإفاضة. ومن الشعائر المتعلقة بمنى (العتائر) أي النحر في الإسلام، كانوا ينحرون على الأنصاب وعلى مقربة من الأصنام ثم توزع على الحاضرين ليأكلوا جماعة أو تغطى للأفراد، وقد تترك لكواسر الجو وضواري البر فلا يصد عنها أي إنسان ولا سبع. تبلغ ذروة الحج عند تقديم العتائر لأنها أسمى مظاهر العبادة في الأديان القديمة. وكانوا يقلدون هديهم بقلادة أو نعلين يعلقان على رقبة الهدي إشعاراً للناس أن الحيوان هدي فلا يحوز الاعتداء عليه. بعض أهل الجاهلية يسلخون جلود الهدي ليأخذوها معهم ويتفق هذا مع لفظ (تشريق) التي تعني تقديم اللحم ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم العتائر لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس. لا يحل للحجاج في الجاهلية حلق شعورهم أو قصها طيلة حجهم وإلا بطلت حجتهم. وعندما يحل لهم القص فإنهم يقصون عند أصنامهم، وكان عرب اليمن يضعون الدقيق على رؤوسهم قبل الحلق وعند الحلق يسقط الدقيق مع الشعر فيجعلون ذلك الدقيق صدقة، فكان الناس يأخذونه ويرمون الشعر عن الدقيق. يجوز للحاج مغادرة منى في اليوم العاشر من ذي الحجة ففي هذا اليوم يكمل الحاج حجه ولكن منهم من يمكث بهذا الموضع إلى اليوم الثالث عشر وذلك ابتهاجاً بأيام العيد. بعد أن يفرغوا من مناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم فيقول بعضهم كان أبي يطعم الطعام، أبي يضرب بالسيف.. إلخ، وكان ذلك عند الجمرة أو عند البيت العتيق لذلك نزل قوله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}، (200) سورة البقرة. ** **