نال الأدب والشعر خاصةً مكانة رفيعة عند العرب، جعلت للشاعر مكانته، فعكف بعض الشعراء على هذا الفن الذي أعطاهم قيمتهم في المجتمع، ومنحوه كثيراً من وقتهم، حتى صاروا كأنهم عبيد له، وهذا ما عبّر عنه الأصمعي بقوله: «زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر، [وأضاف الجاحظ] وكذلك كل من جَوَّد في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يُخرِج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة، وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة ومن يلتمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ؛ لذهبوا مذهب المطبوعين». ومن شواهد هذا الحقل ما جاء في كتاب الأغاني أنه «قَدِم الفرزدق فمر بمسجد بني أقيصر، وعليه رجل ينشد قول لبيد: فسجد الفرزدق، فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر»، ومن الطريف أن قول الفرزدق هذا كاد يكون وصفاً سائراً للأبيات المجودة عند بعض النقاد، فقد ذكر ابن المعتز مقطوعة لعبد الملك الحارثي ووصف أحد أبياتها قائلاً: «هذا البيت سجدة للشعراء». وقد ساق الصولي في أخبار أبي تمام خبراً عن أحمد بن أبي طاهر أنه قال: «دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلمٍ، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثين سنةً». ففي هذا الحقل نجد ألفاظاً للعبادة وأسماء للمقدسات، من قبيل (عبيد، استعبدهم، أعبد، سجدة، اللات، العزى، آية الكرسي، ...). لقد كشفت الحقول الدلالية أن التراث الشفوي يمثّل لواء تنضوي تحته مجموعة تحمل خصائص لغوية محددة، وطَرَائق في التفكير متقاربة، وقد امتدّ أثره إلى النقد الذي نشأ مكتوباً، فهو نسيج ذاكرة الناقد، ووعاء مخيلته، وقد سعى إلى ربط علاقات التواصل بينه وبين المتلقي، وبين الناقد والناقد الآخر بواسطة هذا النسيج، وأن البيئة ذات أثر كبير في الثقافة، فالناقد يستقي من دلالاتها ما يراه متوائماً مع فحوى رسالته.