حرص النقاد ومنذ القِدم على التأكيد على مسألة مهمة رأوا ضرورة قيام الشاعر بها حتى يكتمل شعرياً ويتمكن من بلوغ مكانة الشعراء العظماء، وهي مسألة أضحت على أهميتها هامشية في نظر كثير من الشعراء الجدد أو مُهمشة بحكم صعوبتها أو استصعابهم لها، فقد تنبه أولئك النقاد إلى أن كل بناء شاهق لا بد أن يقوم على أساس قوي ومتين يُساعد على زيادة ارتفاعه ويزيد من قدرته على الصمود ولفت الأنظار، ويتمثل هذا الأساس بالنسبة للشاعر في المخزون الشعري المحفوظ في ذاكرته لغيره من الشعراء المبدعين، فرواية الشاعر الناشئ لأشعار أحد الشعراء الكبار الذين سبقوه في إبداع الشعر هي نقطة البداية التي يجب أن يتوقف عندها قبل أن يُسمح له بالركض في ميدان الشعر وينافس الشعراء الآخرين. وكما نعرف فقد "كان لكل شاعر راوية يروي له ويأخذ عنه نهجه في الشعر ويتتلمذ عليه ويتأثر بشعره، فكان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي وطرفة راوية المتلمس، والأعشى راوية المسيب بن علس، وزهير راوية لكل من أوس وطفيل الغنوي، والحطيئة راوية زهير، كما كان الفرزدق وهدبة راويتين للحطيئة، وأبو حية النميري راوية الفرزدق، وجميل راوية لهدبة، وكثير راوية لجميل"، وكذلك مرّت بنا قصة أبي نواس الذي لم يبدأ في نظم الشعر إلا بعد تنفيذ وصية معلمه خلف الأحمر بحفظ ألف قصيدة من قصائد العرب لا يوجد شك في أنها شكلت مخزوناً عظيماً أثر في تجربته الشعرية تأثيراً بالغاً. وللشاعر المبدع عيد بن محسن الشلوي أبيات جميلة يُشير فيها عرضاً إلى مسألة الرواية وأثرها في تعزيز ورفع مستوى الشاعر، مُصرحاً بأن روايته لبعض أشعار أحد الشعراء الكبار وهو عبدالله بن عون لها أثر إيجابي في تجربته الشعرية الخاصة: ما لقيت اللي يطاوع ويمشي في هواي ثم نويت أقطف من الزرع واغرس النواه وأقتبس كلام ابن عون من ذاك وذواي شاعرٍ راية هل الشعر تمشي في لواه كل ما أروي عنه بيتٍ يعزّز مستواي واهبه عذوبة القول ربٍ لا سواه ولأن كثيرا من الشعراء الشباب أرادوا القفز سريعاً إلى كرسي الأستاذية بمواهبهم فقط ودون المرور بمرحلة التتلمذ على أشعار المبدعين السابقين لهم فقد نضح إناء كل واحد منهم بأشعار ركيكة أو متواضعة هي نتيجة حتمية لضعف التأسيس الشعري، وأنا على يقين تام بأن الشعراء الذين ساروا على نهج شعري واضح ومستقيم ولم يكتفوا بحفظ ما ينظمونه أو حفظ أبيات شاردة يشترك الجميع بحفظها هم الأقدر على كتابة قصائد تحقق التأثير والخلود. أخيراً يقول المبدع زايد بن كروز: ما زلت لاهي وأنا من غيبتك ما ألها كني عن علوم غيرك فالعمر منهي ما زلت أناقش خفايا الروح واسألها الحاجة اللي تعوض غيبتك شنهي؟!