جاسم الصحيّح، شاعر استطاع أن يحفر اسمه في الذاكرة الشعرية العربية بمداد من الجمال والتفرد الإبداعي من خلال التجديد في القصيدة الكلاسيكية وحملها إلى فضاء الخيال الواسع.. عن الحب والحياة والموت والأحساء والذكريات و «الأنسنة» وغيرها من القضايا استضفنا الشاعر جاسم الصحيح؛ ليرسم جمال إجاباته عبر الجزيرة الثقافية، فإليكم الحوار: * في غالب اللقاءات التي أُجريت معك تُسأل السؤال التالي: (تقولُ في إحدى قصائدِ ديوانك الثامن: «ما وراء حُنجرةِ المغنّي»: لا يعرفُ النّاسُ منّي غير حُنجرة.. ياليتهم عرفوا ما خلف حُنجرتي»، ما الذي خلف حنجرتك؟).. هل مللت من الإجابة على ذلك السؤال أم أنك في كل مرة تستمتع بإعطاء إجابة مختلفة؟.. وهل ما وراء تلك الحنجرة هي الباعث الحقيقي لكتابتك الشعريّة؟ - لا شكَّ أنَّ ما وراء الحنجرة هو دائماً الباعث للكتابة، وهو يتلخَّص في كلّ إحساسٍ صادق يحمل من الطاقة الشعورية ما يكفي لدفع عجلات الكلمات باتجاه القصيدة. كلمة (الوراء) توحي بأنّ هذا الباعث خارج نطاق الرؤية، أو مخفيٌّ عن العيون، لذلك يجب على القارئ أن يقرأ ما وراء السطور كي يكتشف ما وراء حنجرة الشاعر أو كي يكتشف باعثَ كلّ قصيدة. باختصار، لا بدّ من التنقيب بمعاول معرفية قويّة في أعماق القصائد للوصول إلى بواعثها. * إنّ المتأمّلَ جيداً في بعض قصائدك يجد حضورا لافتاً للروح والجسد، هل رسالتكم الشعرية غير قادرة على الخروج من قوسي الحياة والموت؟ - أعتقد أنَّ كلّ المواضيع تدور داخل نطاق الحياة والموت بوصفهما القضيَّتين اللتين تختصران قضايا الإنسان. بل يمكن القول إن الشعر عبارة عن هذا الصراع الأزلي الأبدي بين رغبة الإنسان في الحياة وبين رغبة الموت في اختطاف الحياة من الإنسان. ولكنّ الشعر في خضمّ هذا الصراع ينحاز للإنسان والحياة على حساب الموت ورغبته المتوحشة. لذلك فهو -أي الشعر- يمنح الخلود لأصحابه ويسقط عن أكتافهم أعباء الفناء. إضافة على ذلك فالشعر يمثّل احتفالية كبرى بالحياة ومنجزاتها الروحية وفتوحاتها النفسية التي تُعلي من شأن الإنسانية في غمرة الحضارات والثقافات البشرية المتعاقبة والتي يرفد بعضها البعض. * في الأزمات التي يمرّ بها العالم العربي نجدُ الشاعرُ يعلو صوته ويشعل نيران القصائد؛ ولكن المتأمل والمتابع لما يُسمّى ب(الربيع العربي) يجد أن من ملامحه: غياب الشاعر بم تفسّرُ ذلك الغياب؟ - قال أحد النقاد الغربيين: (إذا رفع الشاعر صوته بالضجيج فهو دجَّال).. أعتقد أن هذه المقولة صحيحة في جوهرها بغض النظر عن المظهر واسمح لي أن أقوم بتوضيح مقصدي، حيث الشعر لا يمكن له أن يكون هتافاً عابراً على شفاه الجماهير الغاضبة ولكنه معنى كامن في الوعي الثائر، والفرق بينهما كبير. لذلك فإن الشعر الذي يفضي إلى الوعي الكامن يحتاج إلى عمل شاق على خميرته حتى استنضاجه في فرن اللغة، ولا يمكن أن يتأتى ذلك للشاعر إلا عبر التأمل العميق والنحت في منجم العزلة. أما الكتابات التي تولد من رحم الأزمات في لحظتها فيغلب عليها كل شيء إلا الشعر لأنها لم تكن قد أخذت نصيبها من الحمل واكتمال الجنين في الرحم. وهذا يدعونا إلى عدم القفز السريع إلى نتيجة أن الشعراء بعيدون عن الربيع العربي فربما هناك من يستنضج كتاباته على نار التأمل الهادئة. * يرى أحدُ النقّاد -كما أشرت في أحد لقاءاتك- بأن شعرك في الحسين -رضي الله عنه- تمرحل من الآيدلوجيّةِ الضيقة إلى فضاء الإنسانيّةِ الرّحب، هل لمرحلية الفكر عند جاسم دور في ذلك؟.. وكيف يستطيع الشاعر أن يؤنسن قضايا أمّته؟ - في الحقيقة أرى أن الكتابة الإبداعية هي محاولة لأنسنة الأشياء وأولها الإنسان الذي تحوْل إلى أشكال أخرى كالآلة أو حتى الوحش المفترس. وعندما تكون الكتابة شعراً، يكون العمل على أدقّ عناصر الإنسان وأعمقها وأقصد الوجدان الإنساني الذي لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً من دونه. عملية الأنسنة تحتاج إلى جهود كثيرة، وعلى رأسها الجهد المعرفي إذ لا يمكن أن يؤنسن الشاعر نفسه إلا عبر الثقافة التي تقوم بتدجين الخوف داخله من وحوش التراث التي تحتل ذلك الداخل، ثم مهاجمتها وتحطيم أنيابها ومخالبها، لأن الذاهب إلى قراءة التاريخ عليه أن يتعلم مصارعة الوحوش أولاً. بعد ذلك، وحينما يشعر هذا الشاعر بأن لديه الاستعداد النفسي لهذا الصراع الداخلي، يستطيع أن يخطو واثقا باتجاه الأنسنة. أقول كل ذلك وأنا أرى في غمرة ما يسمَّى بالربيع العربي كيف تهاوت القامات الثقافية الكبرى في وحل الطوائف وكيف انكسرت الرموز على محكّ امتحاناتها في هذا الفضاء الطائفي المقيت للأسف الشديد، وكأنّ الوحوش قد ارتدّت على مصارعيها القدامى وافترستهم. * من المعروف عنكم ارتباط اسمكم بالجوائزِ الأدبيةِ في العالم العربيّ، إذ حصلتم على العديد منها، فماذا يعني لكم ذلك الارتباط، وما تقييمكم لتلك الجوائز؟ - موضوع الجوائز موضوع شائك وطويل، وقد تحدثت عنه في عدة مناسبات ومقابلات سابقة. لقد شاركت في العشرات من المسابقات وفزت بالكثير منها، وخرجت من كل ذلك بعدة معطيات. أولاً: كل مسابقة لها أفقها الخاص بها بعيداً عن المسابقة الأخرى، ولم أجد شبهاً بين أي مسابقتين، والسبب يعود إلى أن كل مسابقة محكومة بذائقةٍ مكوّنة من لجنة تحكيم خاصة هي التي تحدد مصير الفائزين. ثانياً: وجدت أن المسابقات مثل السكاكين يمكن أن نستفيد منها بما ينفعنا ويمكن أن نسيء استخدامها إذا لم يكن لدينا وعي. ثالثاً: المسابقات أحداث عابرة تتوهج وسرعان ما تنطفئ ولا يبقى سوى الشعر الحقيقي الذي يضيء في سماء الحياة. رابعاً: الفوز بالجائزة يمثل مسؤولية كبيرة لا يمكن احتمالها إلا بالعمل الجاد على تثبيت هذا الاستحقاق دون الركون إلى الدعة التي قد تعيد الأول إلى المركز الأخير على صعيد الإبداع. خامساً، أعتقد أن الجائزة تمثل شكلاً من أشكال تكريم المبدع لذاته وليس فقط تكريم الآخرين للمبدع ولكن أحذر المبدعين الشباب من الوقوع في أشراك الجوائز وإنما أن يعبروها بسلام آمنين. * الأحساء نخلة سامقة في فضاء الشعر على مستوى المملكة والعالم العربي، ما تقييمكم للحالة الشّعرية في المملكة العربية السعودية والأحساء بشكل خاص؟ - ربما لست إنساناً متفائلاً على صعيد الحياة والواقع، ولكنني متفائل جداً على الصعيد الشعري فما أراه في المشهد الثقافي داخل وطننا الكبير هو انتصاب قامة الشعر مع كل جيل جديد ينبثق من أعماق هذا التراب الطاهر. لقد تحدّثت أنا كما تحدّث الكثير غيري عن الأحساء وجازان وقدرتهما على استنبات الشعراء المبدعين بين حين وآخر، بوصفهما خزانين للشعر العربي في المملكة العربية السعودية. ولكنني أعتقد أن كل مناطق المملكة تستولد هذا الفن الشعري بامتياز على امتداد الأجيال، فالقطيف والباحة مثلاً.. ما تزالان تضخّان إلى المشهد الشعري أسماء شعرية رائعة لها حضورها الذي يضيء وجه الإعلام، بالضبط كما تعمل الأحساء وجازان. وهناك الكثير من الشعراء المتألقين القادمين من كل الجهات على امتداد مساحة الوطن إلى عمق الساحة الإبداعية. لا أراني أميل للمقارنة أبداً لأن الشعر عبارة عن تجربة ذاتية حميمة بالنسبة للشعراء، فلا يمكن أن نستثني منطقة من مناطق الوطن وننقص من قدر شعرائها. * هناك الكثير من الأصواتِ الشعريّة الشابة في العالم العربيّ؛ لكنهم في الهامش، برأيك ما هي الطريقة المثلى كي يصبحوا في المتن؟ - لا أعتقد بوجود الهامش في هذا العصر.. لا يوجد مبدعون يعيشون في الظل، حيث الجميع حاضر عبر وسائل التواصل الاجتماعي يدلي بدلوه في بئر الحضور الإبداعي وهذا ما يميّز الإعلام الجديد الذي منح فرصة سواسية للكلّ بعيداً عن الإعلام الرسمي المأزوم منذ القديم بسبب انخفاض سقف الحرية فيه وتقييد النصوص الإبداعية بسلاسل المحظورات والتابوهات والخطوط الحمر. في هذه الحقبة الزمنية، انفتح المتن على الهامش وتوحّدا في عدة مناطق تسمح للمقيمين في الظل أن يتنزهوا فيها وان يزرعوا فيها إبداعهم بحرية مطلقة. * يقول الكاتب والناقد الأكاديمي الدكتور خالد الرفاعي: «أشجان هندي وجاسم الصحيّح جناحان طويلان.. والشعر السعودي طائر».. و قبل سنوات قال القصيبي-رحمه الله-: «أشجان هندي أفضل شاعرة عربية» وقال عنك: بأنك شاعر استثنائي يشق طريقه نحو القمة وقد وصل إليها منذ زمن, ماذا تعني لك علاقة التميز مع شاعرة الجمال * أشجان هندي, وهل الشعر السعودي اكتمل عند جاسم وأشجان؟ - أولاً: أشكر الأخ الكريم الدكتور خالد الرفاعي على هذه الثقة التي أولاني إياها، وأدعو بالرحمة لروح الدكتور غازي القصيبي. ثانياً: الشعر لا يمكن أن يكتمل إذ هو رحلة الإنسان في البحث عن الكمال، وهذه الرحلة متواصلة أبد الآبدين أو حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. لذلك ما دام هناك إنسان، هناك شعر يتجلى في شكل من أشكاله سواء عبر اللغة أو غير اللغة. الوصول إلى الكمال يعني توقّف حركة الشعر.. يعني الموت واللاجدوى.. يعني نهاية الإنسان والعالم. الشاعرة المبدعة أشجان هندي شاعرة حملت الشعر في وطننا إلى مطارح متقدمة من المستقبل على متون أبجديتها العالية، وشاركت بفعالية وحماسة في صناعة مشهدنا الشعري على مدى العقدين الماضيين، وشكلت بتجربتها علامة مميزة في المشهد. ولا أراني أستحق ولا أحتمل أبدا أن أكون جناحاً آخر مقابل خبرة جناحها العالي على التحليق والطيران. تجربتي مجرد تجربة كلاسيكية أحاول من خلالها تطعيم القصيدة العمودية بالرؤية الحديثة والصورة التي تنتمي إلى هذا العصر، ور بما أنجح قليلاً ولكنني أفشل كثيراً في عصرنة النص المقفى.. هذه التجربة لا يمكن لها أن توضع على ميزان واحد مع تجارب سعودية مبدعة استطاعت أن تضيف أمواجاً ساخنة إلى نهر الشعر العربي. * بعد تجربتكم الشعرية الطويلة هل خلعتم رداء الصوفية وارتديتم رداء الواقعية، أم أنك في حالة توفيقٍ بينهما..؟ - أنا شخصياً لم أمارس التصوف في معناه الشعائري، ولكنني مارست وأمارس التصوف في معناه الإبداعي الذي يحتوي على جوهر الحياة وهو الحب بين البشر. لذلك، لا يمكن أن أخرج عن حالة الصوفي تحت مظلة هذا المعنى العاشق للبشرية. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن أن أنفرط من حقيقتي الإنسانية التي تشدّني من تلابيب قصيدتي إلى طين الأرض. التصوف بالنسبة لي هو هذه الحالة التي تتلبَّسني وأنا ذاهبٌ إلى الشعر في كاملِ صلصالي، وفجأةً أدخلُ في تنّور الكلمات وأذوب وأتحوّل إلى قصيدة. * قرأت لكم عشرات المقالات في جريدة اليوم السعودية، تساءلت بعدها هل من الممكن أن يفاجئنا جاسم الصحيح بنتاج إبداعي نثري كما فعل نزار قباني والجواهري وغيرهم من الشعراء؟ - لست متحمساً للكتابة التنظيرية عن الشعر.. ربما لأنني لا أملك ذلك الحسّ النقدي الذي يدفعني إلى التنظير الشعري، وربما لأنني أشعر أنني لن أضيف إلى ما كتبه المنظرون والنقاد عن الشعر وهواجسه. ولكن كل ذلك لا يمنع أن أكتب تجربتي الخاصة مع الشعر في المستقبل بعيداً عن كل التنظيرات المعقدة. أما مقالاتي في جريدة حيث كنت أكتب زاوية أسبوعية فهي هواجس ووساوس وكتابات انطباعية يغلب عليها حضور الذات في كل موضوع أتناوله، كما يغلب عليها أيضا البوح الذي يعرِّي الأعماق في لحظات شاعرية تمارس لذَّة التجلي في الكلمات.. هذه الزوايا التي كتبتها كثيرة ولا أعلم إن كانت تستحق أن أفرد لها كتاباً أم لا. * متى نرى شعر جاسم الصحيح بين يدي الآخر عبر بوابةِ الترجمة؟ - في الحقيقة ما انفكّ يراودني مشروع ترجمة باقة من أعمالي الشعرية إلى اللغة الإنجليزية منذ عدة أعوام، ولكنني كسول في هذا الجانب.. غالباً ما يطغى فعلُ الكتابة لديَّ على فعل النشر وكأنني أشعر أن الوقت يأفل بسرعة ولا بد من استثماره في الخلق الإبداعي بدلاً من الانتشار الإعلامي. في الوقت ذاته، ربما يرجع السبب إلى عدم وجود مؤسسة ثقافية عرضت عليَّ فكرة ترجمة بعض أعمالي، كما عرضت عليَّ دار أطياف فكرة طباعة أعمالي الشعرية وتم إنجاز الفكرة قبل عدة أشهر. * يقول الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي: (ذكريات كل إنسان هي أدبه الخاص) بعد الخمسين، ماذا تعني الذكريات الماضية للشاعر؟ - الإنسان محضُ الإنسان -ناهيك إذا كان شاعراً- يحاول دائما أن يعيش ربيع العمر في كل مراحل حياته، وأعتقد أن كل مرحلة من مراحل العمر لها ربيعها ولكن يحتاج الإنسان إلى طريقة لاكتشافه.. وهذه مهمة شعرية بامتياز إذ ينتصر الشعر على الزمن ويلقي عليه القبض، ثم يوقف دورته على فصل الربيع الذي يتناسل زهوراً وخضرة من نهر الكلمات والمشاعر الخصبة. بناء على ما تقدم، كلما كبرنا أصبحت مهمة الشعر أكبر وارتفع منسوب التحدي في نهر الحياة وكأن الشعر يجدف ضد مجرى الأمواج الزمنية كي يأخذها باتجاهه بدلا من أن يسير في اتجاهها. بعد الخمسين أشدّ وطأةً مما حدث بعد الأربعين، وهكذا دواليك إذ بعد الستين سيكون أشدّ وطأةً من بعد الخمسين، حيث الزمن ينتقم لنفسه ولا يمكن أن نتصدى لهذا الانتقام إلا بالقصيدة التي تجيد التسلل عبر الذكريات التي تمثّل الأنفاق السرية للعمر، والعودة بنا إلى تفاصيل الماضي الذي يستقبلنا بأحضان دافئة وأذرعة وردية ريثما نقضي قسطا من الأحلام، ثم نخرج إلى جحيم الواقع ونتشظى على صخوره. * المساحة الأخيرة لك فقل ما تشاء؟ - أبدأ كلمتي الأخيرة بأحد أبياتي الشعرية : هذه هي حال الزمان والمكان.. حال موحشة.. ولا يمكن ترويض وحشتها إلا بالفن والإبداع والجمال. لذلك، اعملوا أيها الفنانون كي تتقلّص مساحة الغروب وتنحسر موجة الخذلان، واكتبوا يا أيها الشعراء تنزاح غيمة القطيعة بين السماء والأرض ويهطل مطر الوحي والرشاد، وانحتوا أيها النحاتون كي يتجلَّى الفارس المخلِّص خارجاً من جبل العتمة الذي يحدق بالعالم، وغنُّوا أيها المغنُّون كي نستجير بالموسيقى من مارد هذا الخراب الكوني.