يختصر الشاعر جاسم الصحيح، في ديوانه الأخير «ما وراء حنجرة المغني»، الصادر حديثاً عن الدار الوطنية الجديدة، ألمه في بيت شعري: «لا يعرف الناس مني غير حنجرةٍ/ يا ليتهم عرفوا ما خلف حنجرتي». ويحاول الصحيح، الذي قرأ قصيدة بديعة لفتت الأنضار، أمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، في مهرجان الجنادرية الأخير، عبر 280 صفحة، من ديوانه أن يكشف القناع عن الشاعر الذي تجبره الحياة على لبسه، ليسكن اسمه ويدفع عنه الصفة التي يحاول الآخرون أن يكون عليها، فتتضح في قصائد الديوان الكثير من هواجس وهموم وخطايا وآلام وأحلام الشاعر، إذ يكون الشعر طريقاً يقود إلى الحقيقة، عبر إيماءات وإشارات وإيحاءات يلتقطها القارئ، مثل ذبذبات في موجة أثيرية للوصول إلى المحطة/الحقيقة، ففي لحظات كتابة القصيدة بحسب ما يعترف به جاسم في حواره هنا، غالباً ما يكون شعور لدى الشاعر بأنّه يعيد خلق ذاته وصوغها من إكسير جديد استخرجه من وعيه، وكأنه مع كلّ قصيدة يصوغ جزءاً من ذاته الجديدة يعادل جزءاً ما تبعثر من ذاته الأولى. «الحياة» التقته. فإلى نص الحوار: قدمتَ لديوانك بكتابة نثرية، هي بمثابة الشهادة عن أيامك وعن الشاعر في داخلك، لماذا لجأت إلى النثر ألا يكفي كل هذا الشعر؟ هل هو عجز وغموض في القصيدة، هل هو وضوح في النثر؟ - هذا هو ديواني الثامن «ما وراء حنجرة المغني»، الذي صدر حديثاً وقمتُ بإصداره بعد فترة احتباس في الطباعة استمرّت خمس سنوات تقريباً، وآمل أن يجد القارئ في هذا الديوان ما يبرِّر فترة هذا الاحتباس، خصوصاً في ظلّ استمراء الطباعة عند المبدعين خلال هذه الأيام مع توافر الناشر والأندية الأدبية التي تتكفَّل بطباعة المنجزات الإبداعية داخل المملكة. كتابتي للمقدمة النثرية ليس عجزاً في القصيدة ولا وضوحاً في النثر وإنما استمرار لممارسة أحد التقاليد التي درجتُ على ممارستها في دواويني السابقة، وهذا الديوان «ما وراء حنجرة المغني» هو ثامن ديوان كما أسلفتُ، وكتبت مقدمات نثرية لمعظمها، وربما كان ذلك أحد تجلّيات حبّي الكبير للكتابة النثرية، إذ بين الحين والآخر تجتاحني رغبة للتعبير عن بعض هواجسي نثراً، وقد تكون هذه الهواجس أسرع في تدفُّقها من الانتظار لأنْ تُصاغ شعراً فتأتي في صياغة نثرية، وربما كنت أمارس لؤماً جميلاً أو حيلةً شرعيةً للتمادي في علاقتي بقصيدة النثر واعترافي بها بطريقة غير مباشرة، خصوصاً أنني أرى أنّ أرضَ النثر أرضٌ بكرٌ وخصبة تغري محاريثي الفنية للعمل فيها على أمل أن أستنبت منها بعض الشعرية، فهناك الكثير من المبدعين الذين صنَّفوا مقدّمات دواويني بالقصائد النثرية على رغم أنني لا أنظر إليها كذلك. ولكنك حتى في النثر تتحدث كشاعر وتتألم كشاعر، وتختار صورك شعرية، مكتظةً ومتلاحقةً، شبيهة تماماً بما تكتبه في القصيدة؟ - إضافةً إلى ذلك، فأنا أؤمن بأنّ الكتابة الإبداعية لا تكتمل من دون أن تكون مبطّنة بالشعرية في مضمونها وصياغتها مهما كان نوع هذه الكتابة الإبداعية شعراً أو قصة أو رواية أو خاطرة. ربما في الحالتين الشعرية والنثرية، أنا أتعامل مع الكتابة بطريقة جادة لا أتنازل فيها عن مقوّماتها الأساسية وعناصرها الأولية التي توفّر لها كل استحقاقات الإبداع، قد أنجح حيناً وأفشل في أحيان أخرى كثيرة، ولكن يبقى لي شرف المحاولة... كما يقولون. من يعرف الشاعر جاسم الصحيح عن قرب لا يتوقع أنه يحمل كل هذا الكم من الحزن والألم والتعاسة، كيف تكون الكتابة ترجمة وبرهاناً وصورة شخصية حقيقية للكاتب؟ وهل الحياة اختفاء وتمثيل، بينما الشعر هو وضوح وحقيقة؟ - الشعر هو كرسي اعتراف وملجأ للراحة النفسية عبر البوح الفني بما يختلج في الداخل من هواجس وهموم وخطايا وآلام وأحلام، الشاعر قد يلبس قناعاً في الحياة كي يداري كثيراً من أشجانه وأحزانه وآلامه وأحلامه، ولكنه يباشر إلى خلع هذا القناع في القصيدة ويخلع عليها قناعاً آخر من الفنية والتورية الجميلة، الشعر في نهاية المطاف ليس وضوحاً ولا حقيقة، وإنما طريق يقود إلى الحقيقة عبر إيماءات وإشارات وإيحاءات يلتقطها القارئ مثل ذبذبات في موجة أثيرية للوصول إلى المحطة/الحقيقة. في قصائد التفعيلة «الأرض أجمل في الأغاني»، وغيرها كم كبير من النثر. كيف ترى تجربتك في قصيدة التفعيلة وهل يمكن أن نقول أنها أكثر اتساعاً وسماحة من الشكل العمودي؟ - أنا أشعر بأنّ روحي الشعرية مبنيّة بناءً عمودياً منذ بدايتها ولذلك أشعر بحضور العمود الشعري حتى في قصائدي التفعيلية، ولا شكّ أنّ الشعر الحرّ «التفعيلي بالتحديد» يمنح فضاءً أرحب للتعبير وتدفُّق المشاعر، ولكنّ الإبداع لا يعتمد على الشكل الشعري وإنما يعتمد على الشاعر وحجم موهبته، بالنسبة إلي لا يمكن أن أحكم على تجربتي سواءً في الشكل العمودي أم الشكل التفعيلي فذلك متروك للنقاد، لكنَّني أفسح لنفسي مساحة كبيرة من الاجتهاد خلال كتابتي في هذين الشكلين الشعرين. ينتصب العمر «الأربعون» أمامك مثل شبح، مثل الندم، مثل الخطيئة، وفي بيت آخر تقول: «زحف العمر للخمسين»، وفي مقابل ذلك تودّ لو ينسدل الستار، لتذهب إلى ندماء ينتظرون في الرمل، «انسوني فإن هناك لي ندماء في أحشاء هذي الأرض»، يحفل ديوانك بفكرة الخوف من التقدم في العمر وتقابله رغبة في الخلاص وانتظار الموت، وأنت بين العمر والموت تعيش مثل حرفيٌّ يصنع بأناة ومهل وضجر أداوته/ حياته! إلهذا الحدّ تكون الحياة عبئاً؟ ما هي الحياة؟ - الحياة هدية جميلة جاءتنا من الغيب، ولكنها جاءت ملغومة، وعلينا أن نقبلها أولاً، ومن ثمّ أن نتعامل معها بحذر حتى نكتشف معادلتها وكيفية ربط أسلاكها وكيف يمكن لنا أن نمنعها من الانفجار، وما المعرفة إلا محاولة لتأجيل انفجار هذه الهدية الجميلة الملغومة، ولكن كلما تقادم العمر شعرنا بأنّ لحظة الانفجار حانت فنشعر بالخوف شعوراً طبيعياً، نشعر بأننا سنخسر هذا الجمال، وهنا نكتشف أنّ متوالية الخسران تكرّر نفسها في أعمارنا، وهاجس الموت في هذا الديوان هو أشبه بهاجس الفناء الذي يلي الموت، والشعر هو حال مقاومة للفناء عبر الخلود في قصيدة، بناءً على ما تقدَّم، تأتي ثيمة «الأربعين» التي تتكرر في هذا الديوان كحدّ فاصل بين نهاية القدوم إلى الحياة وبداية الرحيل عنها، تأتي هذه الثيمة حبلى بالرعب والأسى والتأمل في ما تبقى من العمر وامتحان عناصر التكوين في ما إذا كانت لا تزال قادرة على العمل أم لا. تحضر الحكمة في قصائدك كثيراً «إن الوشاية في الحب مسكٌ»، «إن الحب مقدار التورط بالتراب»، وتأتي كثيراً في قصائد الحب. هل الحب هو حكمة ويقين وإيمان ومقام، وقدرة الإنسان على أن يرسم خريطته، أن يفصل على مقاس الحبّ أعضائه، كما تقول في قصيدتك؟ - الحكمة هي عصارة تجربة حياتيه سواءً كانت فاشلة أم كانت ناجحة. والحبّ هو تلك القيمة الإنسانية التي تضمّ تحت مظلتها جميع قيم الإنسان. والشعر لا يمكن أن يكتمل من دون أن يحمل هذه النفحة الفلسفية المسمّاة بالحكمة والتي تكتنز في داخلها حجم المعاناة التي خاضها الشاعر كي يكتبها. يقال إنك لا تزال تسعى وراء الجوائز من خلال مشاركاتك في المسابقات المحلية والعربية، هل أنت بحاجة إلى الجوائز للتعريف بشاعريتك أم رغبة في المراكز الأولى؟ - مشاركاتي في المسابقات تناقصت بمقدار 70 في المئة، وأصبحتْ مقتصرة على المسابقات المهمة جداً، والتي تضيف جديداً إلى مشاركاتي السابقة وليس مجرَّد استنساخ لها. هناك مثلاً مسابقة نادي الرياض الأدبي عن «أفضل كتاب» أو مسابقة «شاعر عكاظ» أو مسابقة «البابطين للإبداع الشعري» أو مسابقة «الشاعر محمد حسن فقي»، لا شكّ أنّ هذه مسابقات مهمة، ولو حصل أن اشتركتُ في إحداها وفزت يوماً ما، فإنها ستضيف إلى رصيدي الإعلامي والإبداعي. أما يقينك أنني أشترك وأنا على ثقة من فوزي فهذا يقينٌ مبالغٌ فيه لأنّ المسابقات صاحبة مفاجآت، إضافةً إلى كونها تعتمد على ذائقة أشخاص قلائل لا يتجاوزون ثلاثة في لجنة التحكيم، وقد تلتقي ذوائقهم مع قصيدتي وقد لا تلتقي. أخيراً، تأكَّدْ أنَّ المسابقات التي ربحتُها أقلّ بكثير من تلك التي خسرتها ولكنّك بالطبع لا تعلم إلا بما ربحتُ لأنّها تُنشر في الإعلام. من خلال وجودك عضواً في مجلس نادٍ أدبي، كيف وجدت انخراط المبدع في مؤسسة ثقافية، وكيف يستطيع أن يوازن بين شروطه الإبداعية وشروط المؤسسة؟ - لا شكَّ أنّ الجمع بين شروط المؤسسة الثقافية والشروط الإبداعية الذاتية يحتاج إلى توازن دقيق، لا يقلّ عن ذلك التوازن الذي يحتاج إليه المبدع للجمع بين شروط الإبداع وشروط المؤسسة الاجتماعية التي تتجسَّد في التقاليد والأعراف، ولكنَّ الجمع بينهما ليس مستحيلاً، فأنا مثلاً - بوصفي عضواً إدارياً في نادي الأحساء الأدبي - لا يمكن لي فيه قراءة جميع ما أكتب، ناهيك عن طباعته، كذلك، بوصفي مسؤولاً في لجنة الشعر، فقد أضطر إلى مراقبة بعض القصائد المقرَّر إلقاؤها في بعض الأمسيات الشعرية كيلا تتعدَّى الخطوط الحمراء، وهذا الصنيع يتناقض مع حريَّة الشعر التي أبحث عنها أنا شخصياً في قصائدي، ولكن في الوقت ذاته، إنَّ حذف مقطعٍ من قصيدةٍ أو استبعادَ القصيدة كاملةً لا يساوي في قيمته المعنوية استبعادَ الشاعر من الأمسية. هذا التوازن هو الأساس الذي تقوم عليه علاقتي بالمؤسسة في كلّ الأمور.