بين لغة فياضة وإيقاع حميم تجلت تجربة الشاعر جاسم الصحيح عبر عشر مجموعات متميزة، نالت حظوة القراء والنقاد والجوائز، لتصنع اسما حاضرا بقوة في مشهدنا الثقافي. وجاءت مناسبة فوزه بجائزة الأدب في معرض الرياض للكتاب أخيرا، لحظة تتويج مقدرة لمسيرة صاخبة من القصائد والتجليات، مسيرة كرس فيها قصيدته لتكون صوته الأوحد في مواجهة توحش العالم. عن الجائزة وملابساتها، والقصيدة وعوالمها، وعن جاسم الشاعر والإنسان كان هذا الحوار: هل كنت تتوقع الفوز بهذه الجائزة.. وما الذي تضيفه لك الجائزة ولتجربتك؟ - لا بد من الاعتراف أولا أن مشاركتي هذا العام في مسابقة الوزارة لم تكن المشاركة الأولى لي، وإنما سبقتها مشاركتان.. مرة كانت بديواني (ما وراء حنجرة المغني)، والمرة الأخرى كانت بديواني (كي لا يميل الكوكب)، ولكن لم يحالفني الحظ في المرتين. ثم جاءت هذه المشاركة بعد أن طبعت غالبية أعمالي الشعرية في ثلاثة مجلدات ضخمة احتوت على ثمانية دواوين شعرية متنوعة تمثل في جوهرها خلاصة رحلتي مع الشعر خلال ال30 عاما الماضية. لقد دخلت إلى المسابقة هذا العام محملا ليس فقط بحمولة ثقيلة من الأشعار التي امتدت على مساحة تقارب ألفي صفحة، وإنما كنت محملا أيضا بحمولة أكبر من الأمل والتفاؤل بالفوز كي أعوض ما فاتني في الأعوام السابقة وأتوج مرحلة طويلة مع الشعر وأنطلق إلى أخرى؛ لذلك، أنا أعتبر فوز أعمالي الشعرية في هذه المسابقة بمثابة تتويج لمرحلة شعرية من مراحل عمري. وقد أسعدني أكثر ما أسعدني أن هذا التتويج جاء من جهة وزارة الثقافة وليس من جهة أهلية أو من مسابقة يقوم عليها رجال الأعمال، فالوزارة تعني الوطن.. إلى أي مدى ترى الجوائز الأدبية مقياسا ومعيارا هاما للإبداع؟ أعني هل الجائزة تساهم في تنمية المبدع والكاتب أم أنها لا تعدو كونها تقديرا وتكريما؟ - سبق لي أن قلت إن الجوائز تحمل في ثناياها الشيء ونقيضه.. فهي قد تكون معيارا للإبداع وقد لا تكون في آن واحد. بعض الجوائز تضع شروطا وتحاصر المبدعين بهذه الشروط، ولكن في نهاية المطاف، دائما ما تكون الجائزة خاضعة لذائقة ثلاثة أو خمسة أشخاص يمثلون لجنة التحكيم، وربما لو استبدلنا هذه اللجنة بلجنة أخرى.. ربما تتغير النتائج لأن المعيار الجمالي للذائقة سوف يتغير. أما السؤال: هل تساهم الجائزة في تنمية المبدع أم لا؟ فجوابه يعود إلى المبدع ذاته ويتجلى في طريقة تعامله مع الجائزة، فإذا شعر في أعماقه أنه وصل القمة عبر حصوله على جائزة ما فاعلم أنه انتهى إلى الحضيض. ثالثا.. لك حضور طاغ في تويتر بقصائد تلقى تفاعلا كبيرا ومتابعة رائجة.. هل تويتر يصلح أن يكون منبرا أو منصة جديدة للشعر؟ وهل يمكن أن يجد الشعر في مواقع التواصل الاجتماعي فسحة أكبر أمام الأحداث السياسية وهاشتاقات الفتن التي تطل دائما؟ - هذا سؤال هام جدا.. العلاقة بين مواقع التواصل الاجتماعي وبين الإبداع الشعري.. تويتر أنموذجا بوصفي كائنا تويتريا.. أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين فهي قادرة على أن تقتلنا إبداعيا بمقدار ما هي قادرة على أن تمنحنا جماهيرية كبيرة. لكن ذلك كله يعود إلى أسلوبنا في التعامل معها. تويتر كما وجدته هو أفضل المنابر الإعلامية التي تعاملت معها والسبب أنه يميل لأن يكون منبرا شاعريا حيث إن الشعر حالة اختزال كما هو تويتر. لقد أصبحت القصيدة ثقيلة على ذائقة غالبية الناس في هذا العصر، ولكن (التغريدة) خفيفة تكاد تطير بأجنحة مثل (بيت القصيد) كما كانت تسميه العرب سابقا وهو عبارة عن البيت الذي يختصر القصيدة. لذلك فأنا شخصيا أقدم للمتابعات والمتابعين خلاصة شعري عبر هذه التغريدات، و أجدها فرصة للتواصل مع الجميع تواصلا حميما ورشيقا دون أن أثقل عليهم بقصائدي. هل ترى أن هذا العصر من الممكن أن يستوعب الشعر كما كان في السابق؟ حتى السرد خفت أخيراً.. هل نحن في مرحلة لا شعرية ولا سردية بل فكرية بامتياز وبكل هذا الجدل الطاغي الذي يصاحبها؟ وهل يمكن لهذا العصر أن يستوعب الشعر؟ - أعتقد أن العالم منذ تكوينه وهو يتدحرج نحو هاوية التوحش.. ومع مرور الزمن يزداد منسوب هذا التوحش في العالم. ومنذ البداية جاء الشعر بوصفه مقاومة جمالية لما أسميناه: التوحش. السؤال هنا: هل هذه المقاومة تضعف مع كل عصر؟ هل تفقد شعاعها الجمالي الممتد في وجدان الإنسان؟ أم أن الإنسان مفطور على مثل هذه المقاومة ولا يمكن أن يتنازل عنها مع تقدم الزمن؟ العجيب أن الإنسان أيضا يحمل الشيء ونقيضه في داخله، فهو في جزئه السماوي صانع الجمال، وهو في جزئه الأرضي صانع التوحش. لذلك لا يمكن أن يتنازل الإنسان عن جزئه الجمالي الذي يتمثل في الشعر والفنون على عمومها، ولكن بلا شك يأتي الشعر في المقدمة لأنه يمثل الفن في أجمل تجلياته. لا يمكن للعصر ممثلا في إنسانه أن يتحول إلى مجرد آلة فكرية تقوم على المنطق لأن المنطق في حد ذاته شكل من أشكال السجون، وكلما حاول الإنسان أن يتنفس هواء نقيا في قلب هذا السجن المنطقي بدأ بتحرير المفردات من قبضة المعنى القاموسي التداولي لها وأطلقها في فضاء الشعرية. يقال إنك بدأت مسيرتك الإبداعية عبر الاحتفالات الدينية والاجتماعية.. ما هي هذه الاحتفالات؟ - الشاعر هو ابن بيئته يولد من رحمها ويرضع من أثدائها ويكبر على سواعدها، حتى إذا تفتحت سنابل رشده على الحياة جمعاء، بدأ بتمحيص ما اختزنته ذاكرته من أفكار وانطلق باتجاه العالم.. كل العالم. ومن الطبيعي جدا في مجتمع مثل مجتمعنا الأحسائي أن ينطلق الشاعر من خلال المحافل الدينية والاجتماعية لكثرة ما تقام مثل هذه المحافل في ربوع الأحساء. هذا ما حدث لي بالطبع فقد كنت في بداياتي حاضرا بكثافة في المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية إلى درجة أنني كنت أشعر أن قصيدتي يكتبها المجتمع مفصلة حسب وعيه ومزاجه وذائقته. ولكنني انتبهت مبكرا إلى خطورة هذا الاستلاب الاجتماعي الذي اختطفني من ذاتي، فبدأت بالعودة إلى الذات وأخذت قصيدتي مسارا جديدا باتجاه الحياة. تقاعدت من العمل في أرامكو حديثا.. هل من أجل أن تتفرغ للشعر؟ وهل لا بد أن يكون المبدع والأديب متفرغا للكتابة والتأليف؟ - في الحقيقة، رغم أن الوظيفة شكل من أشكال السجون خصوصا على صعيد الوقت، إلا أن عوامل كثيرة اشتركت في دفعي إلى التقاعد المبكر وليس فقط التفرغ للكتابة. أما عن سؤالك هل يحتاج المبدع إلى التفرغ فلا شك أن المبدع في الأصل موظف لدى لحظته الشعورية العميقة التي تستهلك الكثير من جهده ووقته ومشاعره. فإن كانت لديه وظيفة فإن جهده سوف يتضاعف ووقته سوف ينشطر. لكن رغم ذلك، لا أستطيع أن أقول إنه لا بد للمبدع أن يكون متفرغا فهناك مبدعون ملأوا الدنيا وشغلوا الناس وما غادروا كراسي وظائفهم مثل الدكتور غازي القصيبي رحمه الله تعالى. برأيك، كيف ترى الأصوات الشعرية الجديدة في السعودية؟ وهل ما يزال للشعر تأثير في المشهد الثقافي؟ ولماذا؟ - الحركة الشعرية في السعودية حركة ذات تاريخ قديم، تتواصل من خلالها الأجيال وتتسع الخارطة ليسكنها الأجداد والأحفاد دون أن يضيق أي منهم بالآخر. في الحديث عن الجيل الشعري الجديد، نحن نتحدث عن جيل يبدع صوته الخاص به بدلا من أن يكون حارسا للصدى القديم. إن بدايات هذا الجيل لا تشي بخريف يخذل الأغصان في حديقة الكلمات.. على العكس تماما، هذه البدايات تبشر بقدوم سرب أنيق من عصافير اللغة يجيد التحليق في فضاءات الجمال. لقد انتبه شعراء هذا الجيل اول ما انتبهوا إلى حقيقة مهمة مفادها أن كثيرا من الفشل في التجارب الشعرية سببه الإعجاب الخطأ بالشعراء السابقين إلى درجة محاولة تقليدهم والتأثر السلبي بهم. لذلك، حينما مروا بمحطات من سبقهم من الشعراء مروا خفافا دون أن يتركوا في كتاباتهم آثارا تشير إلى ذلك المرور.. إلا ما ندر. وحينما تتفحص قصائد هذا الجيل الجديد من الشعراء، لا تجد تلك الجلبة التي تصم آذان المشاعر، ولا ذلك الصخب الذي يفزع الأحاسيس، وإنما ترى القصائد ملونة بالرؤية وموشحة بالشفافية. لديك ديوانان فقط مطبوعان حسب «ويكيبيديا».. هل تراهما في الكم تليق بحضورك كصاحب جائزة للأدب في معرض دولي للكتاب؟ - هذا غير صحيح أبدا.. والصحيح هو أنني أصدرت 10 دواوين شعرية حتى الآن، وهي من الدواوين الضخمة التي لا يقل الواحد منها عن 250 صفحة ويبلغ بعضها 600 صفحة مثل ديوان (أعشاش الملائكة).. والدواوين هي كالتالي: ظلي خليفتي عليكم، عناق الشموع والدموع، حمائم تكنس العتمة، أولمبياد الجسد، رقصة عرفانية، نحيب الأبجدية، ما وراء حنجرة المغني، أعشاش الملائكة، وألنا له القصيد، كي لا يميل الكوكب. لو كنت محكما في اختيار الفائز بجائزة الأدب في هذا المعرض الذي فزت فيه أنت بالجائزة.. من كنت ستختار؟ ولماذا أيضا؟ - أعتقد هذا السؤال قائم على فرضية ناقصة.. هو يفترض أنني كنت محكما ولكن ينسى أن هناك شروطا للمسابقة ومن ضمنها أن يقدم المتسابقون منجزهم للمسابقة.. وهو الجزء الناقص وهو أسماء المتسابقين كي أحدد إلى من تذهب الجائزة. ولكنني أود أن أقترح اقتراحا يليق بجائزة كبرى مثل هذه الجائزة وهو أن تكون دائما جائزة تجربة إبداعية متكاملة وليس جائزة كتاب واحد، والسبب هو أن هذه الجائزة تشكل نوعا من التكريم الوطني لأصحاب التجارب الإبداعية التي امتدت على مدى طويل من الإبداع والعطاء.